
يعرفُ الجميع أنَّ حماس ليست محلَّ قبولٍ واسع من الفلسطينيين، والحركة نفسها أوّل العارفين. ربما انتزعت من الناس إقرارَهم الصامت؛ لكنها لم تحُز رضاهم ولا إجماعهم. غازلت عواطفهم وخاصمت عقولهم، وأضرّتهم وقضيّتهم الوجودية بأكثر مِمَّا أفادت.
لا تشكيك فى اعتقادها، ولا فى نواياها؛ إنما حسابُ السياسة على الظاهر، والظاهرُ الثابتُ أنها أساءت كثيرًا فى النظر والقرار والاستدراك، وتردَّت بذاتها والبلد المُضيَّع من سيِّئ إلى أسوأ، والأسوأ على الإطلاق أنها تدّعى العصمة، وتُخَوِّنُ المُختلفين، وتُكابر فيما تثَبَّت للبعيد قبل القريب بالقول والمُمارسة وبحور الدم.
أكبرُ فصائل غزّة وأقواها؛ لكنها ليست أكبر من فلسطين قطعًا. لها أن تزعُمَ العِصمةَ والبأس والبطولة الفرديّة، وعليها أن تُبرِّرَ ما أنزلته بخصومها بطشًا وتقتيلاً لعقودٍ ثلاثة، وما أعانت العدوَّ على إنزاله بالجميع عبر حروبٍ خمسة، أحدثها ما تزال مُتأجِّجةً فى عظام الغزِّيين، ولا يُعرَفُ مداها، بينما لا يعترف الباقون من قيادات التنظيم بأنهم أخطأوا فى إشعالها، ولا يُوحون من أىِّ وجهٍ بأنهم نادمون بصدقٍ، أو ساعون بأمانةٍ واجتهاد لإطفاء ما يتعيَّن ألَّا يظلَّ مُشتعلاً مهما كانت التنازلات.
فاض الكَيلُ بالمنكوبين. نجا مَنْ مات، وتنصهِرُ قلوبُ الأحياء، وأشدّهم غضبًا عندما عَزَّ عليه الكِتمانُ انفجر. هكذا اندلعت تظاهرةٌ كثيفةُ المُشاركة شمالىَّ غزّة، هتفت ضد الحرب واستباحة الأرواح على الإطلاق، لكنها تحرَّرت من خديعة النفس، ومن تزييف السرديَّات وتلوينها، فكان طبيعيًّا أن تُعلِّقَ الجرسَ فى رقاب الحماسيِّين، وأن تصرخ ضد الفصيل وجناياته على الجميع، وعلى توظيفه للكُتلة البشرية الهادرة طُعمًا يستدرجُ ضباعَ الاحتلال، ومنصَّةً للتصويب عليه دعائيًّا، وللمُزايدة على غيره عاطفيًّا، ومواصلة لعبة "أنا ومن بعدى الطوفان".
والحكاية من دون استطرادٍ أو إضافات، أنَّ مئات الغزِّيين من كلِّ الفئات والأعمار خرجوا فى منطقة بيت لاهيا. طالبوا بوقف العدوان وإنقاذ الأطفال؛ لكنهم أدانوا حماس عن سلوكها فى الحرب والسياسة، وطالبوا بإبعادها عن المشهد، وبإسقاط حُكم المُلثَّم/ قاصدين على ما يبدو هيمنةَ الجناح المُسلَّح على القرار، ومُنتقدين "القسَّام" فى صورة مُتحدِّثها الإعلامى "أبو عبيدة".
تواترت الشهادات والمواد البصرية عن الحدث، ثمَّ تدفَّق بعدها ما يرصدُ اعتداء عناصر الميليشيا على المُتظاهرين، وانتهاجهم سلوكيات قمعية لإرهاب الغاضبين وكَتْم أصواتهم.
ليست المرّة الأُولى، وسبق أنْ تمرّد أهلُ القطاع على الحركة وسُلطاتها. بدايةُ الهيمنة كانت دمويّةً أصلاً، عندما ألقت عناصرَ "فتح" من أعالى البنايات، وسحلت بعضَهم مربوطين بسيَّاراتها فى شوارع القطاع. بدا أنها صنعت الأُمثولة المُبتغاة، وردعَتْ المُعترضين استباقًا، وعليه صار الاعتراضُ مُغامرةً غير مأمونة، ونزقًا أشبه بالانتحار.
قبلها كان الإرهابُ واحدًا من أُصول حماس الثمينة، منذ تأسَّست بحسب زعمها فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى. كان لديها جهازٌ أمنىٌّ دشّنه وقاده يحيى السنوار، مهمّته تعقُّب المُتعاونين مع الاحتلال وتصفيتهم. لا مُحاكمة ولا قرائن أو دفوع، كل المطلوب قرار رجلٍ واحد، ثمّ رصاصة فى الرأس أو القلب، وتنتهى الخصومة قبل أن تخرج للعَلَن.
لا يعرف حجم ما حدث فى شمال غزّة نهار الثلاثاء الفائت، إلَّا مَن يعرف حماس من قُرب، أو اختبر جماعة الإخوان وشبيهاتها من التنظيمات الراديكالية. أغلب الخارجين يعرفون يقينا أنهم يضعون أنفسهم وعائلاتهم فى مرمى نيران الحركة، وقد لا تُخطئهم رصاصة المقاومة ولو أخطأتهم صواريخ الاحتلال. والحال؛ أنهم لا يخوضون تلك المُغامرة إلا عن يأسٍ كامل، كما لو أنهم يختارون بين مَوتَيْن.
والضيق من حيث كونه قديمًا ومُكدّسًا فى الصدور؛ فإن انفلاته ليس مَبنيًّا على الحوادث الأخيرة فحسب. صحيح أن الحرب فعلت بالناس الأفاعيل، ولا شىء يتقدّم على رغبتهم فى الخروج من المحرقة؛ إلا أن الخروج على الحركة يحمل شيئًا من رائحة العقاب بأثرٍ رجعى، واستهجان سلوكيات عقدين كاملين من الانفراد بالقطاع، ومثلهما قبلهما من الضرب تحت الأحزمة وفى الغرف المُغلقة.
إنها إشارة لوصول الغليان إلى مداه الأقصى، وقُرب الانفجار العارم. ما كان مكتومًا بالخوف صار قريبًا من الافتضاح، لأنه لا مزيد لخسرانه، وليس أسوأ مِمَّا وقع ليخشاه الغزّيون. الغضبة وثيقة الصِّلة بالمأساة الراهنة والانفعال بها، لكنها أبعد كثيرًا من الحرب وكوارثها. ثمّة إدانة ضِمنيّة للانقلاب القديم، والاستبداد الطويل، وانفراد السنوار وغيره بالقرار، وإملاء ما يُريده الأُصوليّون على رقاب العُزّل المُختطفين من الفصائل قبل الاحتلال.
ما عاد فى خزانة حماس ما تُقدِّمه فى الميدان أو على الطاولة. تضرّرت عسكريًّا لدرجة العجز عن الصمود فى قتال طويل، وورقة الأسرى فقدت وهجها وليس لديها ما يغرى نتنياهو وعصابته. الحركة التصقت تمامًا بالجدار، والقطاع يُعتصر فيما بينهما، وما يزال الانقسام يستفحل أفقيا ورأسيًّا، فلا هى تنزل عن الشجرة لصالح منظمة التحرير، ولا تجتهد لردم الفجوة بين جناحيها العسكرى والسياسى، وما تقوله الفنادق تفسده الخنادق، وما تجنيه الأخيرة على البشر والحجر، تستميت الأولى لإنكاره والتنصّل من تبعاته.
هُزِمت فى الميدان، واكتفت بالنصر شعارًا ودعايات. وعليه؛ فإنها تحصد العوائد وتترك كُلفة الهزيمة لأصحابها. الوطنيّون الخلصاء هُم الذين يُقرّون السرديّة المُلفّقة، وكلّ من يقف على الأطلال صادقًا مع النفس والواقع، لا يراه الحماسيّون إلا كما يرون الصهاينة. خلل فى المنطق واعتلال فى الرؤية، ونظر للوطن والقضية وأصحابها من ثُقب إبرة الأصولية وانحرافاتها العميقة، وغير المقنعة لطفلٍ صغير.
لا مِراء فى جُرم الاحتلال، ولا أنه المسؤول الأكبر عما آل إليه الصراع فى كل محطّاته. العِلّة الكُبرى فى اغتصاب الحق، وانعدام فرص التسوية العادلة. والتسليم بما فات لا يعنى أن الطرف الآخر لا يرتكب حماقات، ولا يُقدِّم مُبرّرات سهلة وذرائع مجّانية. الطوفان نموذجًا ليس إلا خطيئة مكتملة الأركان، وجناية على النفس بأكثر مِمَّا على العدوّ. والتركيز على إسرائيل حصرًا دون التوقُّف أمام حماس؛ إنما ينُمّ عن إنكار عميق، ورغبة فى التنصُّل من المسؤولية، وادّعاء للطُّهرانية والبراءة فى مقامٍ يتساوى فيه القاتل مع الراقص على بحيرة الدم.
الكذب على الذات لا يُهدِر حقّ الضحايا فى سرديّة عادلة فحسب؛ بل يلعب دورًا تضليليًّا مشبوهًا للغاية. يعمى العيون، ويُزيّف الحقائق، ويمنع من الوعى بالدروس واستيعاب عِظاتها، وبطبيعة الحال فإنها لا يضمن اكتساب المعرفة التراكمية المطلوبة، ولا يعفى من تكرار الخطايا بحذافيرها مرّة بعد أُخرى.
غضبة الغزّيين إشارة تحذير يجب ألّا تُفوّتها حماس، ولا أن تتذرّع فى تجاوزها بلعبة العَدّ أو فتنة الوَصم والتشويه. اندفع الحماسيّون سريعًا كما كان مُتوقّعًا للتحلّل من التزام العقل. اتّهموا المُتظاهرين بالخيانة والعمالة وخذلان القضية، واستمدّوا مِداد دعاياتهم من إعادة نشر صور الاحتجاجات على حسابات مسؤولين إسرائيليين، وأخيرًا تحدّثوا عن إجماعٍ خيالى، فى مواجهة أقلية ظاهرة على الملأ.
الخوف يحكم غزّة منذ سنوات بعيدة. قليلون لديهم الجرأة على المُجاهرة بما يعتمل فى نفوسهم. حسابات الغزيين على مواقع التواصل تفيض بالنقد والقدح فى الحركة بكل مستوياتها، وكل شخص سار هاتفًا فى تظاهرة بألفٍ، لا لشىء إلا لأن المعتاد أن قِلة قليلة من الناس تُقبل على المهام الرسالية ذات الطبيعة الانتحارية، وتُقدِّم نفسها برضاء كامل افتداءً لغيرها.
ليس تفصيلاً عابرًا أن إسرائيل توصّلت لقائمة طويلة من القيادات الحماسية فى أسبوع واحد بعد إنهاء الهُدنة والعودة لأجواء الحرب. المؤكّد أنها استغلّت أسابيع التهدئة فى جمع المعلومات وترصيص الصفوف، تحديث قاعدة بياناتها بشأن الأهداف وتحرّكاتهم، وخريطة الإحلال فى المواقع القيادية الشاغرة. إنما ثمّة إشارة إلى اختراق يُوجب الإزعاج، وإلى انكشاف لا يتماشى مع الصلابة التى ادّعاها السنوار، أو المزاعم التى يتصلّب فيها ورثته إلى اليوم.
غالب الظنّ أن الاحتلال حصل على دعم من الداخل. أشخاص على الأرض لعبوا أدوارًا فى الرصد والإخطار، وفى التعقب والاصطياد أيضًا. ربما ضاق نفر من العامّة بسلوكيات التنظيم فاقتص منه على طريقته، وربما سقط بعض أعضاء حماس أنفسهم فى الفخ. والثابت أن كثيرًا من قادتهم منذ أحمد ياسين والرنتيسى وصلاح شحادة سُلِّموا تسليمًا من الداخل.
الحركة مُتناقضة فى احتفائها بغضبة أهالى الأسرى الإسرائيليين، وابتذالها وترخُّصها إزاء غضب الغزّيين. مُنحطة فى الإشادة بالأولى وتشويه الثانية، وفى التعريض بنتنياهو لتعاليه على الشارع، بينما تُمارس استعلاء على الجميع، وهى ليست سُلطة مُنتخبة ولا مُمثلاً شرعيًّا بالتاريخ أو الموقف أو صفاء الأجندة. كانت جناحًا لتنظيم دولى، ثم صارت عضوًا فى محور مذهبى، وتُتَّخذ أغلب قراراتها وراء حدود فلسطين، ولأهداف أخرى غير ما يتطلّع إليه الفلسطينيون.
خوّنت حماس خصومها، ثم تجاهلت الغضب داعية إلى النفير العام لثلاثة أيام تبدأ غدًا، وبعدما فوجئت بالتظاهرات تفتّق ذهنها عن التشغيب عليها، فأطلقت عِدّة صواريخ باتجاه إسرائيل. الثابت أن صواريخها لا تفعل شيئًا سوى إثارة الغبار، وتغطية سلوكيات نتنياهو وعصابته، واستجلاب الموت لقاء إبراز أنها قادرة على إيلام العدو، وقادرة على مواصلة القتال بلَحم الأطفال، وغير معنية بـ"الخسائر التكتيكية" من الأرواح والدماء، كما وصفها خالد مشعل.
حتى لو سار فى المظاهرة شخص واحد؛ فستكون كافية لإثارة الانزعاج، وإجبار الحركة على التوقّف مع نفسها لو كانت صادقة فعلاً. المسألة ليست فى التعداد؛ بل فى الوعى الديناميكى القادر على قراءة المُقدّمات، ومَدّ الخطوط على استقامتها، ومعرفة حجم جبل الجليد من مقدار رأسه الظاهر. حماس لا تتجاوز عُشر سكان غزّة فى أفضل الظروف، ما يعنى أن مليونين لا أكثر لا ينتمون لها. ربما تعاطفوا معها حينًا، أو منعهم الحياء ومنطق الأزمة من نقضها أحيانًا؛ لكنهم لا يُقرّون لها بالولاية على حياتهم، ولا يرتاحون إلى تقديمهم أُضحياتٍ مجانيّة بنزوة منها أو قرار.
الحماسيّون أحوج ما يكون إلى الاعتراف بالخطأ، والاعتذار عنه، وفحص أسلم السُّبل لتصويبه واستعادة اللُحمة بين الناس. ليس من صالحها أن يشيع الارتياب بين المكونات، ولا أن يتضخم الغضب فى الصدور إلى أن يُضطرّ الناس للإبلاغ عنها علنًا، أو الاقتصاص منها بأذرعهم العارية. إنها وصفة مثالية لإجبار الناس على الكُفر بالمقاومة، أو لاختراع الحرب الأهلية من العَدَم.
الغضب حق، والتعبير عنه واجب، والمأساة لا يُنكرها إلا مُغرض أو مُنحط. الحركة عليها أن تعترف بأنها شريك فى النكبة، بما قدّمته للنازية الصهيونيّة من ذرائع، وما تواصل تقديمه بانعدامٍ كامل للحصافة والتعقُّل. يعرف الجميع أن الاحتلال مُجرم؛ إنما لا تستقيم السرديّة من دون تحميل شريكه فى الجريمة لحصّته منها. على حماس أن تُقرّ للناس بضيقهم، وألا تستمرئ لُعبة التخوين، وأن تتحلّى بالشجاعة لمرّة واحدة فى عُمرها، وتنصرف من المشهد فى صمتٍ وخجلٍ يليقان بها، وبكل مَن دعموها ورقصوا معها على إيقاع الأيديولوجيا، وفوق جثمان القضية.