
تُعد الطفولة من أهم وأجمل المراحل الإنسانية، حيث تتشكل ملامح المستقبل، لكنها في مناطق النزاع تتحول إلى كابوس مستمر، تُسلب فيه البراءة، ويُسرق الأمان ويصير ترفًا لا تطيقه الحروب، وتصبح أصوات المدافع والرصاص والدمار وكلمات كقصف، حصار، وخوف كلمات يتعلمها الأطفال قبل كلماتهم الأولى، ففي ساحات الحروب يُحرم الأطفال من حقهم في الحياة الطبيعية، بل غدت البيوت أنقاضًا والوطن صار رمادًا تبعثُرُه القذائف وشاهدًا على قطاعٍ كان يومًا ينبض بالحياة، والبراءة مجرد حلم بعيد المنال، ورغم ذلك فهي لا تزال صامدة تقاوم بالابتسامة حين تتاح لها الفرصة، وتنظر إلى الأفق بأمل خجول، متشبثة بالحياة رغم القسوة فهي لا تحتاج إلى شفقة، بل إلى تحرك حقيقي ينقذها من براثن العنف، ويمنحها ما تستحقه من حب وتعليم وأمان.
ويُمثِّل واقع الطفولة الفلسطينية معاناة مستمرة وجرحًا نازف وجه العالم، ففي الوقت الذي يعيش فيه أطفال العالم طفولتهم بأمان يحتفلون بأعيادهم، ويرسمون أحلامهم يُسلب الطفل الفلسطيني أبسط حقوقه، ويجد نفسه محاصرًا بالخوف والحرمان من أعزاءه بل سلب حياته، ويكبر قبل أوانه في ظل القهر والمعاناة في واقع يصادر حتى حقهم بالحلم وبالحياة، فلم تعد الطفولة تُقاس بالبراءة والضحكات، بل بعدد الغارات التي دمرتْ الأخضر واليابس، وبعدد الأمهات اللواتي احتضنَّ أطفالهن تحت الركام دون أن يتمكن من حمايتهم، وبعدد الأرواح الصغيرة التي أزهقت قبل أن تزهر أحلامها.
ومع تصاعد وتيرة العدوان في السنوات الأخيرة، لم يكن الأطفال الفلسطينيون بمنأى عن الانتهاكات الجسيمة التي تمس جوهر حقوقهم الأساسية؛ فالحق في الحياة بات مشروطًا بنجاة محفوفة بالمخاطر، والتعليم أصبح رفاهيةً لا يطالها كثيرون، والصحة أضحت تحديًا في ظل حصار يفتك بكل مقومات الحياة، أما الأمان فقد غدا حُلْمًا بعيد المنال، ولم تعد صور الطفل الذي يركض مذعورًا تحت القصف، أو ذاك الذي يمسح دموعه بعد فقدان عائلته مجرد مشاهد عابرة، بل أضحت ملامح ثابتة في المشهد الفلسطيني، تُبث عبر الشاشات ووسائل الإعلام، لأرواحٍ تنبض بإرادة ترفض الانكسار متشبثة بالحياة رغم كل المحاولات التي تُريد أن تَئِدَها، وكأنها تهمس للعالم نحن هنا رغم كل شيء، وقضيتنا ستظل صامدة تنتظر العدل من رب الكون.
وقد كشفت الإحصائيات الحديثة حتى أبريل 2025م عن حجم الكارثة الإنسانية التي تعصف بأطفال فلسطين، إذ تجاوز عدد الشهداء 18,000 طفل منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بينهم 274 رضيعًا لم يروا من الحياة سوى لحظات عابرة قبل أن تستهدفهم آلة الحرب، و876 طفلًا لم يكملوا عامهم الأول، و17 آخرون قضوا نحبهم تجمدًا من شدة البرد في خيام النزوح، و52 استشهدوا نتيجة الحصار والتجويع الممنهج ببطء وقسوة، أما الجرحى، فقد بلغ عددهم 113,274، تشكل النساء والأطفال 69% منهم، بينما لا يزال أكثر من 11,200 شخص في عداد المفقودين، 70% منهم من النساء والأطفال، مما يعكس حجم ووحشية الاستهداف الممنهج للطفولة الفلسطينية في أبشع صور الإبادة الجماعية.
وأمام هذه الأرقام المفزعة، وصفت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) الوضع بأنه صدمة حقيقية ووصمة عار في جبين الإنسانية وجريمة تهز الضمير العالمي، مؤكدةً أن قتل الأطفال وتشويههم، وخطفهم، واستهداف المدارس والمستشفيات، وحرمانهم من المساعدات الإنسانية ومن أبسط حقوقهم، ليست مجرد مأساة، بل انتهاكات جسيمة للقانون الدولي وجرائم صارخة فاقت الحدود بحق الإنسانية جمعاء وكما أكدت أن معدل الوفيات بين الأطفال في غزة تجاوز حدود الإدراك، فهؤلاء ليسوا مجرد أرقام في إحصائيات، بل أرواح بريئة تطلق صرخة مدوية في وجه العالم الأصم.
ولم يتوقف الدمار عند الخسائر البشرية الفادحة، بل امتد؛ أليطُل البنية التحتية الأساسية التي يعتمد عليها الأطفال للبقاء على قيد الحياة، فقد تعرضت أكثر من 70% من المدارس في قطاع غزة للتدمير الكلي أو الجزئي، مما حرم مئات الآلاف من الأطفال من حقهم في التعليم، كما دُمّرت المرافق الطبية بشكل منهجي، وأُخرج أكثر من 80% من المستشفيات عن الخدمة بسبب القصف ونقص الإمدادات، مما جعل الحصول على الرعاية الصحية ضربًا من المستحيل، لا سيما للأطفال الجرحى والمرضى، ولا يقتصر هذا الاستهداف على القتل المباشر، بل يتجاوز ذلك إلى القضاء على كل مقومات الحياة، في مشهد يعكس محاولة إبادة مزدوجة، جسدية ونفسية، وسط صمت عالمي يُمعن في تفاقم المأساة ويسمح لها بأن تتكرر بلا رادع.
ورغم ذلك تبقى الطفولة الفلسطينية رمزًا للصمود، حتى في ذروة القصف والدمار ترى طفلًا يُمسك بألوانه الباهتة، يرسم وطنًا خاليًا من الحواجز، ويخط على الجدران المهدمة سنعيش وسنبني من جديد، بتلك الروح الصلبة يُلخصون حكاية شعب بأكمله يناضل من أجل حقه في الحياة بكرامة وحرية؛ لذا تُعد البراءة الفلسطينية، كما في كل مناطق النزاعات والصراعات، صرخةً مدوية ترجوا الإفاقة، وتستنهض ما تبقى من إنسانية في هذا العالم.
إنها نداء استغاثة لكل من لا يزال يحمل في قلبه ذرة رحمة، لكل من يؤمن بأن الطفولة حق يجب أن يُصان وأنَّه يجب ألَّا يدفعوا ثمن الحروب، نقول لهم أوقفوا نزيف البراءة، امنعوا تهجير أصحاب الأرض، أوقفوا جرائم الإبادة الجماعية التي تسرق الحياة فلم يعد التضامن اللفظي كافيًا، فقد آن للعدالة أن تستفيق من سباتها، وللإنسانية أن تنهض من صمتها، وآن لهذا الخذلان أن ينكسر أمام دموع الأمهات، وآهات الثكالى، وصرخات الأطفال، ليس فقط في فلسطين، بل في كل أرضٍ تنزف ظلمًا وعدوانًا.
فمتى سينتصر العالم للبراءة قبل أن تُطفأ آخر شمعة أمل في عيون الأطفال؟ أولئك الذين رغم كل ما يسحقهم، لا يزالون يتشبثون بالحياة ويراهنون على معجزة لم تأت بعد، معجزة لا تتحقق إلا بتحرك حقيقي، بانتفاضة للعدالة تُعيد إلى العالم إنسانيته قبل أن يصبح الدمار هو القاعدة، والأمان مجرد استثناء، إنها ليست مجرد مسؤولية أخلاقية، بل التزام قانوني يقع على عاتق المجتمع الدولي بأسره، فمن المخزي أن تتحول حقوق الأطفال إلى شعارات جوفاء، بينما تُسحق طفولتهم تحت الركام، لقد آن الأوان للمؤسسات الدولية والحقوقية على مستوى العالم أن تخرج من دائرة الإدانات والاستنكارات إلى أفعال حقيقية وتتحمل واجبها القانوني والأخلاقي، وتضمن الحماية الفعلية لهؤلاء الأطفال، تُعيد إليهم ما سُلب منهم، حقهم في الحياة، في الأحلام، في الطمأنينة في الأمان والسلام.
ونؤكد أن الطفولة البريئة حق أصيل لا ينبغي أن يُختطف في الحروب، ولا أن يُترك فريسة لصمت العالم، فإما أن ننتصر للعدالة أو تستمر البشرية في السقوط وتعُم شرعية الغاب، حيث القوة وحدها هي القانون، والبراءة ليست سوى ضحية جديدة تُضاف إلى سجل طويل من العجز والخذلان.
أ.د/ مها عبد القادر
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر