ويتواصل الحديث عن الليبرالية الغائبة فى مصر، والتى تتصور الحكومة وأنصارها أنها مجرد تشريعات أو قرارات وإجراءات إدارية، وليست منهج حياة وسلوك وممارسة.
فعلى مدار 34 عاماً منذ انطلاق الانفتاح الاقتصادى وحتى الآن، لم تتمكن الحكومات المتعاقبة من ترسيخ قيم وثقافة واضحة ومحددة للاقتصاد الحر فى مصر رغم تراكم الخبرات والتجارب.
وربما القيمة الوحيدة التى ترسخت إلى الآن هى كيفية البحث عن الثغرات فى القوانين أو كيفية الالتفاف حول بنودها من أجل تحقيق الربح السريع والمكاسب غير المنطقية لمراكمة الثروة ثم الالتفاف نحو السلطة.
والمشكلة الحقيقية فى هذا الصدد أن حكوماتنا لم تتحرك لوضع قاعدة صلبة لتحرير الاقتصاد، وإنما ارتبطت دوافعها بأسباب عديدة فى أغلبها ليس اقتناعاً بالليبرالية ولا يحزنون.
ومن الصعب تجاهل متغير مهم مرتبط بحكومة د. أحمد نظيف التى تضم فى صفوفها بعض من المؤمنين بالحرية الاقتصادية والعارفين بقوانينها وآلياتها، من غير الطامعين فى مراكمة الثروة ومزاوجتها بالسلطة.
غير أن المشكلة الحقيقية فى الحكومة الحالية هى فقدانها لجناح مهم قادر على المساهمة فى تحقيق الانطلاقة نحو "لبرلة" المجتمع وتحريره سياسيا، والمشكلة الأكبر أن هذا الجناح لايرتبط بشخص وإنما برؤية.
فمازال المجتمع المصرى يعانى مشكلة حقيقية مع ثقافة الآخر، والقدرة على قبوله والتعامل معه، واعتبار الرأى والرأى الآخر جزءاً من منهج حياتى لا يمكن التعامل معه باعتباره قضية رفاهية.
ويحلو للبعض أحيانا التهرب من هذا الملف الشائك بالإشارة إلى مشكلة ثقافة المجتمع، وهو تعبير صحيح وحقيقى ، فالمجتمع يعانى مشكلة تاريخية تتعلق بفكرة احتكار الحكم سواء من خلال عائلات (كما كان قبل الثورة) أو من خلال تنظيمات سياسية (عهد الراحل عبد الناصر) أو من خلال حزب سياسى (الحزب الوطنى)
لذا، فإن حديث مشكلة ثقافة المجتمع صحيح، لكن من قال إن الحكومات بريئة من ذلك الذنب الذى ترفض المساهمة فى تطهير المجتمع من آثامه، بل وتساهم أحيانا فى تعميق العداء لليبرالية بالاتجاه نحو مزيد من الانفراد بالقرار، مما يدفع ناحية الفاشية بشكلها الدينى أو السياسى.
والليبرالية من دون جوانبها السياسية المجتمعية هى ليست أكثر من إطار اقتصادى يتيح لأصحاب الرأسمال احتكار الثروة والسلطة دون تحقيق الرفاهية للمجتمع ، وربما تجارب بعض دول جنوب شرق آسيا شاهد على ذلك.
فتجارب "لبرلة" الاقتصاد و"عمعمة" المجتمع لم تتح لأصحاب هذا الاتجاه سوى الحكم لفترات زمنية متفاوتة فى مدتها، انتهت دوماً إلى انفجار المجتمع من داخله عبر عمليات تمرد فى أعقاب انهيار اقتصادى كان منطقياً حدوثه.
إن الليبرالية السياسية لاتعنى التعدد الحزبى فقط، أو إتاحة الفرصة لتداول السلطة وفقط، وإنما هو منهج حياة يمارسه الحاكم والمحكوم على حد سواء بهدف حماية المجتمع من تغول طرف على الآخر.
ولذلك فان المجتمعات الليبرالية لاتأبه لتداول سلطة أو لتغيير رئيس، قدر ما تهتم بوجود آليات تحقق الشفافية والرقابة، وتحمى المجتمع، وتضمن إنفاذ القانون، وتحترم قواعد العمل، وتصون حقوق الناس.
مشكلتنا هنا أن المجتمع ليس مؤهلاً فعلياً لممارسات ليبرالية حقيقية، وقبل ذلك فإن حكوماتنا لم تبدأ حتى الآن فى تنفيذ مشروع ليبرالى حقيقى، معتبرة أن الليبرالية السياسية ترف فى مرحلة الإصلاح الاقتصادى.
حين يقف جميع الفرقاء على خط البداية الواحد، وحين يملكون ذات الحقوق، ويستندون على قانون مجتمعى واحد، فى وجود آليات مجتمعية رقابية عديدة، وفى إطار لايرفض التنوير الثقافى، وتحديث التعليم، وقتها فقط يمكن الحديث عن بدء مشروع الليبرالية المصرية الحديثة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة