بخطى صغيرةٍ واهنةٍ تتقدم إلى وسط الغرفة المكتظة بمريديها، ترفع وجهها إليهم بثقة رغم انحناءة ظهرها الواضحة، فتشع نورًا لا يمكنك وأنت تتطلع إليها للمرة الأولى أن تحدد مصدره، تُحيى الحضور فى بهاءٍ كاملٍ، ثم ترفع يدها لأحد الواقفين بالدور الأعلى، حيث كشافات الإضاءة العالية، طالبة أن يخفض الضوء قليلا لأن عينيها لا تحتمله.
تعود سريعا إلى المصطفين عن يمينها وعن شمالها وإلى هؤلاء الذين فضلوا افتراش أرض الغرفة، تُحيى فرقتها المكونة من عازفين ناى، وربابة أحكم صاحبها سيطرته عليها، ودُفا صغيرًا فى يد المطرب الخمسينى، تطلق نحنحةً طويلة وكأنها تستأذن "أحبالها الصوتية" أن أحسنى صنعًا بالكلمات، كرامةً لهؤلاء.
دون انتظار إشارة البدء، تنطلق "ياعينى ياليلى..ياليلى يا عين"، ينتفض جسدك لقوة صوتٍ لا يمكن لهذا الجسد النحيل أن يحملها، تُكمل وصلتها متجاهلة الكرسى الذى ورائها، تبدأ غُناها بمديح "الزين" وآل البيت، ثم تستعين بالله لإتمام ليلتها مناجيةً "كون معانا يارب".
ما أن تفرغ من مديح النبى وآله حتى تتوجه لجمهورها قائلة: "بتحييكو جمالات شيحة وكل فنان وله ريحة".. صدقت والله يا ستنا، وتُتمم جمالات ذلك بوصلة "مدح" لجمالات بنت الشرقية، صاحبة الفن الشعبية، وسط تأمينات الحضور على كلامها وتشجيعهم.
تجتذبهم موالاً بعد آخرًا فى حضرة صوتها الذى دللته بعُرب "مُحكمة الاستحضار"، مستدعية آهات الربابة وتأمينات الناى، يهدأ الجميع فجأة، وكأن سكونًا سماويًا قد حل بهم، ثم يستفيقوا فجأة" الله عليكى يا ستنا"، وهنا يتدخل الدف والطبلة فى وصلة "لعب" بالإيقاع تعلو معها أيادى الحضور، لا يمنعها الجلوس من التمايل بجسدها قليلا يمينا ويسارا ويشاركها فى ذلك صوتها وهى تغنى "على ورق الفل دلعنى ما أحملش الذل ده يعنى".. حاضر يا ستنا.
تطلب من الحضور "استراحة شاى"، يتجهون خلالها إلى "ترابيزة" وُضع عليها "برادين من الصاج" يملأ أحدهما الشاى والآخر كركديه، وتصطف حولهما مجموعة من الأكواب القصيرة الخاصة بالقهوة العربى، يحصل كل منهم على نصيبه من الشاى والكركردية ويتجه البعض الآخر إلى خارج "مكان" ينفثون دخان سجائرهم بـ"مزاج"، وبابتسامة "سلطنة" لا تفارق وجوههم يعودون إلى الغرفة الصغيرة، يجلس البعض على كراسيه ويفترش البعض الآخر "الشِلَت" الدائرية المتراصة على الأرض.
تبدأ وصلة جديدة من مناجاة الناى للربابة مع تنصت مقصود للطبلة يزيد متعتك "تعقيدًا"، يرى لاعب الربابة الاستسلام وقد سكن الوجوه فيزيدهم اتقادًا مداعبًا الربابة بأصابعه، فتتمايل الرؤس أعلى الأجساد الذائبة فى إيقاع غير مرئى.
تقطع جمالات استراحتها الطويلة ببعض مواويلها، ثم تسأل الحضور عمً يريدون سماعه، فيجيبون:"رسينى"، تتدلل جمالات قليلاً وتسألهم مجدًا "تسمعوا إيه؟ رسينى يعنى؟".. ثم يحل الصمت فجأة وهى تطلق تنهيدتها الطويلة ويُنحى جميع العازفين آلاتهم جانبا وكأنهم يؤكدون أن ما ستنطق به المرأة السبعينية لا يحتاج إلى "سند" موسيقى، تنطلق جمالات"رسينى يا ساقية عذابى.. فين الليىراح فين اللى غاب.. قولى لى راحوا فين وأشكى الفراق لمين..وأروح لمين إيه اللى باقى منى بعد الل راح غير جراح"؛ فيرد الحضور بآهة كبيرة وكأنما يتألمون لوجعها.
بذكاء فطرى تختار الأغنية التى تعيد للحضور بهجتهم المفقودة فى موالها، على أنغام بليغ حمدى تغنى "طول عمرى بقول لا أنا أد الشوق وليالى الشوق ولا قلبى قد عذابه" فتعلو أصواتهم وأياديهم يشاركونها الغناء.
فى جرعة "سلطنة" أخرى تبدأ جمالات فى تعديد مواطن "فتنة" فتاة موال عزيزة ويونس، شعر عزيزة، وجبين عزيزة، وحواجب عزيزة، وعيون عزيزة، ومناخير عزيزة وشفايف عزيزة، ودقن عزيزة ورقبة عزيزة، وصدر عزيزة وبطن عزيزة و عند "ُسرة " عزيزة، تكف جمالات عن الوصف فيصرخ أحد الحضور"يا بخت يونس" ومجاملة يقول لجمالات: إنتى أجمل من عزيزة، فتجيبه بتلقائية مفاجئة "اللى أجمل من عزيزة ربنا".
ليلة من ليالى "الأُنس" يعيشها مرتادى "مكان" أو كما يعرفه أصحابه بالمركز المصرى للثقافة والفنون كل شهر مع جمالات شيحة التى تمتلك قدرة غير اعتيادية على "فصلك" عن كل ما يمكنه أن يشتت انتباهك أو شغلك بما أو بمن سواها، ساعة ونصف من الطرب قادرة على "غسل" روحك ونفض تراب المسافة التى قطعتها إلى "مكان" لتطهر بدنك، فتخرج منه وقد اشبعت جميع حواسك ليصبح سؤالك الأول:"هآجى مكان تانى امتى؟"
مديح الزين وموال عزيزة ويونس فى حضرة ست الدار "جمالات شيحة" فى "مكان".. صوتها يتحدى الزمن.. وتطرب الجمهور بـ"على أنغام الناى" وألحان بليغ حمدى.. والحضور يرد:"الله عليكِ يا ستنا" (تحديث)
الثلاثاء، 23 ديسمبر 2014 03:00 م
جمالات شيحة
كتبت نبيلة مجدى
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة