أكرم القصاص - علا الشافعي

على مبروك.. عزلة إجبارية لـ"فيلسوف الشارع".. جهود أستاذ الفلسفة تكشف مراوغة الإسلاميين لمنح خطاباتهم نوعًا من القداسة.. واشتغاله على نقد التراث أسهم فى فرز الإلهى عن البشرى فى موروثنا الدينى

الجمعة، 25 مارس 2016 05:14 م
على مبروك.. عزلة إجبارية لـ"فيلسوف الشارع".. جهود أستاذ الفلسفة تكشف مراوغة الإسلاميين لمنح خطاباتهم نوعًا من القداسة.. واشتغاله على نقد التراث أسهم فى فرز الإلهى عن البشرى فى موروثنا الدينى المفكر الراحل على مبروك
مدحت صفوت - حازم حسين

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
Untitled-1

نقلا عن الورقى



قليلون من المشتغلين بالفلسفة الذين ربطوا بين كتاباتهم والواقع المعيش، بعبارة أوضح، نكاد نعد الفلاسفة الذين نزلوا بالفلسفة إلى مجالات رجل الشارع، متخليين عن أبراج عزلتهم وكتاباتهم الأكاديمية، مترجلين إلى خوض غمار قضايا المجتمع الحقيقية، أو بتعبير أدق، العملية ذات الصلة المباشرة بالإنسان العادى، ومن بينهم المفكر الراحل على مبروك “1958- 2016“.

فلم يكتف مبروك الذى رحل عن عالمنا مطلع الأسبوع، بمهمة تدريس الفلسفة فى جامعة القاهرة، ولا بالاشتغال على كتابات تضع بينها وبين هموم الناس وحياتهم فاصلة سواء كبرى أو صغرى، كأغلب الذين يعملون بمجال “علم الحكمة“، والذين لا يشتبكون مع الواقع المعيش، وكثيرون منهم ينفصلون عن ذلك الواقع مما يؤدى بهم إلى تبريره أحيانًا وتزييفه أحايين أخرى.

بين تفكيك النص وتدعيم الخطاب


اتصاف على مبروك بـ“فيلسوف الشارع“، انحيازًا وممارسة، وضعه فى قلب اشتباك عضوى مع النصوص المركزية المنشئة ليقين الشارع وظهيره الفكرى، ومع الخطابات اليومية التى ينتجها الشارع ويستهلكها، ومن هنا توزّع جهده الفكرى بين التفنيد والتقعيد، محاولاً الوصول إلى قراءة فلسفية للموروث وفق رؤية عقلانية نقدية، وإعادة تحرير للمُحدَث وفق منطق ديالكتيكى عملى، ولعلّ هذا التوزّع هو ما أنتج شيئًا من التناقض قد تلحظه فى خطاب على مبروك ومشروعه، بين الاشتباك مع نصوص مركزية، ورؤى راديكالية تعيد موضعة هذه النصوص كمتون أولى وحاكمة للفضاء العام، وبين تأصيله لمركزية جديدة تذيب التمايزات وتصهر الألوان والمعادن على اختلافها فى بوتقة واحدة، لتصنع سبيكة شمولية، أو بمعنى أوضح، ستجد على مبروك مشتبكًا مع الموروث فى مستوياته العقدية والسوسيولوجية المتصلة بالدينى فى صفائه الروحى، وفى اتصاله بالسياسى، وفى الوقت ذاته ستجده داعمًا لرؤى بطريركية سياسية تستند إليها دولة شمولية جديدة، وطالعة من رحم الأزمة، هكذا اصطدم كثيرون من محاورى أستاذ الفلسفة بحجم التقابل بين موقفه الفكرى على امتداد مشروع جاوز ربع القرن وأنتج اثنى عشر كتابًا، وموقفه العملى بالانحياز والأفكار والكتابات اليومية والمقالات السيّارة الداعمة لمركزية الدولة ومحاولاتها لتسييد نصّها الطارئ على قماشة الصراع الواسعة ومتراكبة الألوان.

الشريعة الإليهة والفقه البشرى


وضمن الاشتغالات التى ربطت بين على مبروك والواقع المعيش، مناقشته لمفهوم "الشريعة" الذى ترفعه التيارات الإسلاموية كهدف تسعى لتطبيقه حال وصولها إلى سدة الحكم، وزادت حدة أصوات المنادية بتطبيقها عقب اندلاع ثورة 25 يناير، وارتفاع أسهم الإسلامويين السياسية، التى وصلت إلى السيطرة على برلمان 2012، وومن بعده الوصول إلى كرسى الرئاسة صيف العام نفسه.

وفى واقع الممارسة، لا يعد الإسلامويين وحدهم الذين يستخدمون شعار الشريعة، بل تلعب به أحيانًا بعض المؤسسات الدينية الرسمية، كمشيخة الأزهر، بخاصة فى أوقات المزايدة على التيارات الأصولية، كما يروج المفهوم كمطلب مشتهى بين “العامة“ الأمر الذى تلخصه عبارة “عايزين شريعة بس مين يطبقها صح؟!“، وهى مقولة رائجة تلوكها الأفواه للدرجة التى أصبحت شبه مسلمة ثقافية، لكنها تشير فى جوهرها إلى واقع مأزوم لا يرى سبيلًا لمشكلاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلا فى “الدين“ كحل نهائى وشامل من جهة، ومن جهة أخرى تدل المقولة على حالة من عدم الثقة بين الناس والمشتغلين بالإسلام السياسى بصفة خاصة والقائمين على أمور الدين بصفة عامة.

مع ارتفاع مطالبات الإسلامويين بتطبيق الشريعة بدءًا من ربيع 2011، توقف مبروك أمام المفهوم، مشيرًا إلى أننا لا ندرى أية وجهة من وجهات الشريعة، ودلالاتها، يقصد من يستخدم هذا المصطلح؟ فمفهوم الشريعة أحد المفاهيم المحملة بدلالات تاريخية نشأت عن الاشتغال عليه ضمن تحديدات مكانية وزمانية لعبت دورًا فى حاسمًا فى تركيبه، وهذه الدلالات لا تتطابق تماماً- وعلى نحو آلى- مع دلالة المفهوم بحسب التداول القرآنى له. والواقع يثبت أن من يستخدمون مفهوم “الشريعة” هذه الأيام يستدعونه بمحمولاته التاريخية فقط، ويسكتون تمامًا عن الفضاء الرحب للتداول القرآنى له.

ويوضح مبروك، استنادًا إلى الخطاب القرآنى، دلالات الشريعة من خلال البحث عن الجذر اللغوى شرع ومشتقاته داخل القرآن، حيث ورد المفهوم أربع مرات; كان فى ثلاث منها منسوبًا إلى الله وحده، وفى المرة الوحيدة التى نسب فيها القرآن الفعل شرعوا إلى البشر، فإن ذلك كان على سبيل الاستنكار والتعريض؛ وبما يعنيه ذلك من إصرار القرآن على نسبة “الشريعة” إلى الله وحده. ومن جهة فموسوعات التفسير الكبرى “للطبرى والرازى والقرطبى وابن كثير وغيرهم” تتفق فى تفسيرها لآية “شرع لكم من الدين” على أن المقصود من الآية أنه يُقال: شرع لكم دينًا تطابقت الأنبياء على صحته، وأن المراد من هذا الدين شيئًا مغايرًا للتكاليف والأحكام، وذلك لأنها مختلفة متفاوتة. وبحسب تلك القراءة، التى يتفق عليها مفسرو أهل السنة الكبار، فإن مجال “الشريعة” التى ينسبها القرآن إلى الله هو ما تطابقت عليه الأنبياء من الكليات والمقاصد التى يتوافق عليها الجميع من بنى البشر. وأما ما دونها مما يختلفون فيه بحسب الأحوال المتفاوتة للبشر، من الأحكام والتكاليف، فإن القرآن قد جعله موضوعًا “للفقه” الذى لابد من ملاحظة إلحاح القرآن على نسبته إلى الإنسان فى المقابل.

الأمر الذى نستنج منه أن المفهوم القرآنى للشريعة يضعك أمام نوعٍ من التداول بالغ الرحابة والانفتاح، فيما ذهبت الاشتغالات التاريخية على المفهوم إلى التضييق من تلك الرحابة، بعد أن صار المفهوم موضوعًا للانحيازات، ومقتضيات الظروف والأحوال والرؤى، والأوضاع السسيوثقافية، مما جعلنا أمام نوع من الفهم المنغلق الضيق الذى تتحكم فيه تصوراتٍ صنعتها عصور الجمود والركود الطويل التى عاشتها المجتمعات الإسلامية. أما بالنسبة للفقه، فورد الجذر “فقه” بمشتقاته، عشرين مرة فى القرآن، كان فيها جميعًا فى صيغة الفعل المنسوب إلى البشر فقط. وإذ الفقه، هكذا، هو تركيبٌ تدخل فى بنائه الفاعلية الإنسانية، فإن ذلك يعنى عدم جواز استخدام لفظ “الشريعة”- المخصوص بالله وحده بحسب القرآن- فى الإشارة إليه، وذلك على العكس تمامًا مما يفعل دعاة الإسلام السياسى الآن؛ الذين يؤسسون إستراتيجيتهم على مراوغة إخفاء “الفقه” بما هو تركيبٌ إنسانى وراء “الشريعة” بما هى مشروعٌ إلهى.

مراوغة الإسلاميين لكسب القداسة


وسياق تعرضه للإشكالية يكشف مبروك أن الاستخدامات الراهنة للمفهوم يبدو أن استدعاء المفهوم بحمولته التاريخية، وليس القرآنية، هو المهيمن بقوة. المسألة التى تعنى تدنيًا بالمفهوم بلغ أخيرًا إلى حد اختزاله فى مجرد “الحدود”، أو منظومة العقاب التى يدرك دارسو الفقه الإسلامى الحذر البالغ الذى أظهره الفقهاء بخصوص تطبيقها؛ ومن هنا ما أحاطوها به من الشروط التى تجعل تطبيقها صعباً، أن لم يكن مستحيلاً.

“المراوغة هى السبب“، هكذا يفسر مؤلف كتاب “مساهمة فى نزع أقنعة التقديس“ سبب تعامل الإسلاميين مع مفهوم الشريعة بالحمولات التاريخية، وإدراكًا لأن مفردة “الفقه” تخلو من هالة القداسة التى تحيط بلفظة “الشريعة”. وغنى عن البيان أن سعيهم إلى إخفاء الفقه “غير المقدس“ وراء الشريعة “المُحاطة بالقداسة“ يستهدف إضفاء القداسة على رؤاهم الخاصة التى هى نتاج اجتهادات وميول وانحيازات هى إنسانية بطبيعتها. وإذن فإن السعى إلى إضفاء القداسة على ما هو إنسانى، وغير مقدسٍ بطبيعته، هو القصد من وراء إستراتيجية إخفاء “الفقه” وراء “الشريعة”!!

نقد التراث.. فرز الإلهى والبشرى


فى مشروعه الفكرى انطلق على مبروك من العتبة التى انطلقت منها الفلسفة الإسلامية، وهى انطلاقة مركبة ومتداخلة بدرجة كبيرة، فهذا الطرح الفكرى والثقافى الطارئ على البنية العقلية العربية، شقّ طريقه فى مسار الإنتاج النظرى والتطبيقى قبل أقل من قرنين، وازدهر بدرجة كبيرة فى الربع الأول من القرن العشرين، متكئًا إلى آليات عقلانية ونقدية غربية، فى إطار الإجابة على سؤال الهوية والدفاع عن المنجز الفكرى العربى فى مواجهة تيارات الاستشراق - الغربية، المتعالقة مع موجة استعمارية واسعة تسيطر على الخارطة والأفق السياسى والاجتماعى للمنطقة، وهو تداخل على ما فيه من وهن، إذ يستند إلى ماكينة العقل الغربى للدفاع عن العقل العربى الإسلامى ومحاولة دحض الأفكار الوافدة من العالم الآخر، ويخوض صراع الاجتماعى والسياسى مع الآخر، على أرضية الثقافى والعقدى لـ“الأنا“، إلا أنه إلى جانب هذا يستند إلى مركزية فكرية مسبقة الوجهة والهدف والنتيجة، وإلى صراع عقلى على أرضية حروب الأعراق والانتماءات، وهذان الخيطان الذاهبان فى اتجاهين متضادين، ساهما فى إنجاز مشروعات نقدية متذبذبة، أحيانًا ينتصر فيها الذاتى دعمًا للهوية الوطنية والاستقلال السياسى، وأحيانًا تعلو فيها آليات الفلسفة والنقد والتحليل، مدعومة بالأطر السيموطيقية والهرمنيوطيقية للاشتباك مع النصوص والخطابات، فينتصر الموضوعى مثيرًا أسئلة مركزية وكاشفًا عن إضاءات عضوية لمساحات من الالتباس، أو التلبيس، فى التعامل مع التراث بمستوياته الإنتاجية والدلالية.

مفهوم التلبيس نفسه، الذى عرّفه على مبروك بأنه “إخفاء عناصر؛ لإظهار صورة مخالفة؛ فى محاولة لفرض هيمن“، أو تسكين تراكيب متباينة إلى جوار بعضها، بشكل طوعى أو إكراهى، وتصوير تآلفها واتّساقها رغم انتماء كل منها لحقل معرفى أو وظيفى أو دلالى أو تاريخى مغاير، هو ما قاده إلى مفارقة الفروع والعودة إلى الجذور، للحفر فى الأسس والركائز التى يقوم عليها عماد الخطاب وتصورات النصوصيين عن النص، وفى هذه المساحة فرّق على مبروك بين النص/ القرآن، باعتباره تجلّيًا إلهيًّا ذا صيغة مركزية يقينية متعالية، وبين الفروع الطارئة على أعواد النص، فى التفسير والفقه والعقائد والأصول، وغيرها من صور الخطاب التوظيفى للنص وتجلياتها، راسمًا خطًّا فاصلاً بين الإلهى والبشرى، بين المقدس الثابت والتداولى الديناميكى، ولكن رغم هذا الخط الفاصل، لم ير على مبروك أن ثمّة فارقًا بين الظلال الآنية لشجرة النص القديمة وفروعها، إذ لا يوجد مثلاً ما يمكن أن نعتبره خطابًا إسلاميًّا معتدلاً فى مواجهة خطاب آخر متشدّد، فالماكينة واحدة وبذور التشدّد لدى الجانبين، فقط هناك فريق يذهب إلى آخر الطريق وفريق لا يمتلك جسارة الذهاب بنصّه - أو بتصوراته عن نصّه - إلى آخر حدود الدلالة.

قراءة البُنى وخلط الأنساق


الإسهام الأكبر الذى أحدثته الفلسفة فى بنية الدراسات الإسلامية والتحليل التاريخى والثقافى لها، هو القفز بها من مربع الجزئيات إلى الرؤية البانورامية الواسعة، والقراءة العامة والنسقية للبنية المعرفية لحقل الإنتاج والممارسة فى دوائر النص وخطاباته، من هذا التطور الاستقرائى انطلقت ماكينة طه حسين وعلى عبد الرازق، ثمّ حسن حنفى ونصر أبو زيد، وغيرهم، على اختلاف غاياتهم وتنوع وجهاتهم ومدارسهم، وانطلقت أيضًا خطى على مبروك فى مشروعه البحثى، محاولاً قراءة البنية الاجتماعية والثقافية الحاضنة للنص والمنشئة للخطابات المحيطة به، فى إطار اشتباك مع النسق بعناصره وميكانيزماته ومحدّداته، ومن هنا نفذ إلى الجوهر القارّ فى سبيكة التأسيس الفقهى لمفهوم السلطة والنص المركزى، وحدود الترتيب والتفعيل للمفاهيم والنصوص فى إطار الممارسة العملية لها، سواء لدى الشافعى أو فى الخطاب الأشعرى أو لدى الجماعات الأصولية فى مجتمع الحداثة، ولكنه رغم وقوعه العميق على عضوية الصورة والأنساق المعرفية، وفكّه لشفرات التركيب والتداخل بين النص والخطاب، والممارسات الاجتماعية المحيطة بهما، لم ينجُ من فخ الاستعارات الاعتباطية، إفراطًا فى التأويل أو تفريطًا فى أدوات النقد المنهجية.

وأوضح ما تتجلّى فيه سمات هذا الموقف رؤيته للحركة الاستشراقية فى جانبها الأوسع كتحرك إمبريالى مساوق للتحركات السياسية، وجهد لإنشاء السلطة لا لتدشين المعرفة، أو سحبه لسؤال النهضة على أرضية الخلاف العسكريتارى البرجوازى، خلاف الجنرال والباشا، أو محاورته لمؤسسة الأزهر على أرضية اجتزائية تقرأ حدود اتصاله بالراهن مقطوعة عن أسئلة التأسيس والحركية فى التاريخ، وغير هذا من النماذج والإشارات، الصغيرة والوامضة، التى يمكنك أن تلحظ فيها ظلالاً لثغرات تتاخم منطقة الالتباس أو التلبيس، التى انتقدها على مبروك وعمل على تفكيكها فى عطاياه الفكرية والنقدية، ولكنه تورط فيها أحيانًا فى مستويات" الميتا نص"، فيما وراء الظاهر من طرحه النظرى، أو فى توقيع الفكرى على الحركى، واستخدام المعرفى لقراءة العملى، ولكن رغم ما قد يعرض فى قماشة المشروع العقلانى والفلسفى والنقدى لـ"مبروك" من ثغرات منهجية، أو فجوات فى القراءة والاستدلال والتأويل، يظل مشروع على مبروك أحد أكثر المشروعات الفكرية المتصلة بالفلسفة الإسلامية نضجًا وقدرة على محاورة الماضى والراهن، والاشتباك بهما اشتباكًا حيًّا وعاقلاً وفى أن واحد، ويظل أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة الابن البار للعقلية الإسلامية النيّرة على امتدادها فى الزمان والمكان، حاضرًا فى الشارع والمسجد والجامعة وعلى المقهى وفى قاعات الدرس، كتجلٍّ بارز ولامع للصورة المثلى لما يجب أن يكون عليه “فيلسوف الشارع“.


p









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة