أكرم القصاص - علا الشافعي

د.شاكر عبد الحميد يكتب:قراءة فى أعمال الشاعر كريم عبد السلام ..الشاعر يلتقط التفاصيل الخاصة بروح مصر المعذبة..كتابة مفعمة بروح جامحة وقصائد تسمو فوق المتناثر ..ونظرة متأملة مدفوعة بالحب ومفعمة بالألم

الجمعة، 01 أبريل 2016 08:22 م
د.شاكر عبد الحميد يكتب:قراءة فى أعمال الشاعر كريم عبد السلام ..الشاعر يلتقط التفاصيل الخاصة بروح مصر المعذبة..كتابة مفعمة بروح جامحة وقصائد تسمو فوق المتناثر ..ونظرة متأملة مدفوعة بالحب ومفعمة بالألم الدكتور شاكر عبد الحميد

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
- في ديوانه "كتاب الخبز" يقوم الشاعر كريم عبد السلام بما يشبه "الأنسنة" للخبز ويحول الخبز إلى كائن حي له مشاعر وأمنيات وأحزان ورغبات

- الحب الموضوع الأثير لدى الشاعر في ديوان "قصائد حب إلى ذئبة".. هنا رغبة قادرة متأججة متوهجة والعاشق يتحول إلى ما يشبه هانيبال ليكتر عاشق يأكل لحم معشوقته



- الشاعر يستخدم فى ديوان "أكان لازما يا سوزى أن تعتلى صهوة أبى الهول "آليات المونتاج واللقطات المقربة والإحلال واستبدال الواقع بمشاهد أفضل متخيلة وبديلة

- العالم فى ديوان " مراثى الملاكة من حلب" زاخر بالرغبات المتعلقة بالحب والعدل والتحقق والاكتمال بيد أنها رغبات يواجهها دائمًا العنف والدم والمطاردة والإخفاق والأسى والحزن واليأس



يزخر عالم كريم عبد السلام الشعرى باليوميات وشذرات السيرة الذاتية وتجاربها المكتملة والناقصة والملاحظات العابرة والمقيمة والاستلهامات لنصوص أو عناوين نصوص، ويزخر كذلك بالغنائية المصحوبة بالتأمل واللعب، بالتفكه والتورية والالتفات والتجريب ، وهنا تستلهم الروح الشعرية أيضاً مناخات النثر وروحه التي هي الحكاية والحرية، و تكون الذات المتكلمة أيضاً مولعة بالسرد والحكايات، لكنه هنا سرد لا يكتمل وحكايات لا تنتهي، أما الحرية فمطلقة، والواقع يزخر بالأساطير والأسطورة ليست أسطورة ميثولوجية، بل أسطورة تتعلق بأساليب المواجهة لقسوة الحياة وقد تتمثل في إنسان بسيط مثل (العم سيد مروض النمور) أو في مدينة (مثل حلب) أو في شيء من أشياء الإنسان واحتياجاته الضرورية مثل (الخبز) أو في شعور من مشاعره الأثيرة مثل الحب.

إنها التفاصيل الصغيرة التي تصنع العالم الكبير، وهنا ،في هذا العالم ،محاولة كذلك لالتقاط بعض التفاصيل الخاصة بروح مصر المعذبة عبر العصور، وعبر الحكام، وكذلك الرصد لروح الكفاح اليومي للمصريين والعرب بلا كلل ولا ملل على الرغم من كل ما يواجهونه في حياتهم من رهق وعنت، إنها الطاقة التي تطفو حية عبر الكلمات ومن داخل الكلمات والصور والومضات والمشاهد والرغبات.

هنا كتابة مفعمة بروح جامحة، زاخرة برغبات منطلقة، لكنها رغبات تقابلها وتتقاطع معها رغبات مضادة ومعاكسة ومتناقضة ومحبطة أيضًا، وبين هذا وذاك تقع المنطقة التي تولد فيها تلك الروح الوثابة المنطلقة بالرغبات والتي تقابلها فيها أيضا تلك الروح الشريرة النقيض لها، المحبطة لرغباتها، والمثبطة من عزمها. في تلك المنطقة الغامضة الملتبسة أيضا ينشأ إيقاع خاص وتتوالى صور ومشاهد وقصائد تعلو على العادي وتسمو فوق المتناثر، ثم انها تحاول كلها أن تنظر إلى العالم نظرة متأملة فاحصة مدققة مدفوعة بالحب ومفعمة أيضًا بالألم.

في نظريته التحليلية النفسية عن موضوع الرغبة، أشار المحلل النفسي الفرنسي المعروف "جاك لاكان" إلى أن الموضوعات التي لا يتم إشباعها أو تحقيقها، بل يتم قمعها أو إحباطها، غالبًا ما تتعلق بآخر، آخر مفتقد أو غائب، قد يكون شخصًا أو شيئًا أو غاية معنوية، هكذا نكون نحن موضوعات لرغبات الآخرين المادية أو المعنوية، وقد يكون الآخرون موضوعات لرغباتنا أيضاً.

يذهب "لاكان" إلى إن هذه الرغبات ليست بالضرورة رغبات مادية، بل قد تكون رغبات رمزية، أمنيات وأحلام وأهداف عليا، صدر الأم هو موضوع الأول المبكر لرغبات الطفل، وتدريجيًا تتصاعد الرغبات وتكثر وتتنوع وتكتسي أقنعة رمزية، لكن "الآخر" موجود دائمًا في قلب هذه الرغبات، هكذا قد نسعى من أجل تحقيق الرغبات من خلال الآخر: الأب، الصديق، الرئيس، الزوج، المعلم، العدو ...إلخ، لكن تحقيق هذه الرغبات لا يكون بالضرورة متاحًا أو سهلاً في الأحوال كلها، قد تقوم في مواجهته رغبات أخرى معاكسة ومحبطة يكون مصدرها في الغالب ذلك الآخر الذي نتفاعل معه بطرائق ايجابية او سلبية، مباشرة او غير مباشرة، صريحة واضحة او مستترة ضمنية.

روح الخبز


في ديوانه "كتاب الخبز" يقوم الشاعر كريم عبد السلام بما يشبه "الأنسنة" للخبز، أنه يحول ذلك الخبز إلى كائن حي له مشاعر وأمنيات وأحزان ورغبات، إلى إنسان يعيش ويتألم ويتنفس ويفرح ويحزن، ويشاهد ويغضب ويسجل الأحداث والعلاقات والتطورات التي تطرأ على الحجر، وعلى البشر، كل ساعة وكل يوم.

هكذا يكون الخبز وسيلة للتواصل بين الجيران، ووسيلة للقاء، لصنع المأكولات والمشروبات والاحتفاء بها، موضوعًا للرغبات، للشعور بالرضا والشبع والهناء، والوجود والأمل فبسببه "يستلقى "الصبية والبنات على أسطح منازلهم شبعانين، ينظرون إلى نجوم الصيف.." وهو كذلك كائن حي ينادي من يحبه ولا تكتمل تلبية النداء: "لا أقول للجائع خذنى.. فتحتجزني يد السارق".

الخبز وسيلة للقسم، ووسيلة كذلك للحنث بالقسم، فالزوجة التي كانت تخون زوجها أقسمت بالنعمة وهي تحمل الخبز أنها ليست خائنة، وقد ضعف زوجها أمام بكائها وهي تقسم حانثة بينما يقول هو في نفسه: "كيف لا يصدق زوج رغيفًا مقطوعًا نصفين أمام عينين باكيتين!".

باسم الخبز يضع الديكتاتور قدمه على رقاب شعبه، وباسمه أيضًا تعرف البنات طعم السعادة، وبسببه يشعر البائع المتجول بالرضا عن العالم وبخاصة عندما يجلس جوار صندوق بضاعته يلتهم غذاءه.. بل إنه يجدد أيضًا رغبته القديمة في الغناء، هكذا يكون الخبز مثيرًا للرغبة في الغناء، ومثيرًا كذلك للرغبة في البكاء، وما بين الغناء والبكاء، يكون الخبز وسيلة للبقاء ووسيلة أيضًا للفناء، فسببه تقوم أمم وتنهار دول وبيوت وأفراد، ومن أجله "توقف الفقراء في شارعنا عن الحلم بالذهب، عن المضاربة في البورصة، فقط يريدون الخبز، لا سيارات فارهة ولا نساء ممشوقات، لا شىء، سوى أنهم فقط يجلسون أمام بيوتهم في الليل، يضمون قبضاتهم ويكزون على أسنانهم وهم مغمضو العيون في انتظاره".

وفي نوع من المحاكاة التهكمية Parody لذلك العنوان الفرعى الشهير لكتاب الموتى الفرعوني وهو "الخروج إلى النهار" يكتب كريم عبد السلام قصيدة بعنوان "الخروج إلى الخبز".. وكأن الخبز هنا هو النهار وكأن غياب الخبز أيضًا غياب للعدل وحضور خاص للظلمة والظلم، وهنا يصور الشاعر كيف أصبح الناس، الأصحاء منهم والمرضى، يتدافعون من أجل الوصول إلى المخبز بينما لم يتلفت الزحام إلى تلك البنت التي دهمتها نوبة صرع، "ها هي تتراجع، ثم تميل أربع خطوات إلى اليسار باتجاه باب البيت المجاور للمخبز، قبل أن يدفعها الرجل المهرول. والدم يحرك كل شىء".

فتاة مصابة بالصرع تدفعها الأيدي ورجل يمتشق سيفًا يدفعه ناحية شاب يرتدي قميصًا أبيض والدم يتناثر رذاذ من جسد الشاب إلى وجه البنت فتنتابها نوبة صرع "لكن أصابعها تظل قابضة على نقود الخبز" ثم يشتبك المزدحمون أمام المخبز في معركة مع الرجل ذي السيف، والبنت تشتد لديها نوبة الصرع بينما كان الشاب ذو القميص الأبيض "يلفظ أنفاسه الأخيرة، مندهشًا.. والدم يحرك كل شىء.

والخبز يعنى رمزيا الحياة، فهو غذاء الجسد والروح، الجانب المرئي الذي قال عنه ماركس إنه لا يمكن أن يظهر فن أو أدب بدونه، وهو رمز للوحدة أيضًا لأنه يحتوي على حبوب عديدة في تكوينه وعندما يتم كسر الخبز وتوزيعه بالعدل فإنه يرمز إلى وجود حياة متكاملة متحدة متكافلة. ويرتبط الخبز أيضًا بطقوس القربان المقدس في المسيحية، ويرتبط كذلك بالخمر، والدم، "هذا جسدي وهذا دمي" هكذا قال السيد المسيح لتلاميذه، حيث الخمر هي النشوة المقدسة، والخبز هو التجلي المرئي للروح التي تموت وتبعث، مرة أخرى، وتقوم من بين الأموات، هنا يكون الخبز وسيلة لوحدة الجانب البشري والجانب الإلهي من طبيعة المسيح، ولوجودهما معًا بداخله، والخبز رمز كذلك للناتج المتوازن الخاص بمهارة الإنسان وعمله الشاق، خلال عمليات الزراعة والخبز والطهي، لتوحد الخمر الذكرى مع الخبز الأنثوي، الزيت والدقيق، اندماج السائل والصلب، الثنائية الجنسية، الإندروجين عند يونج الأنيموس (الجانب الذكري في داخل الأنثى) والأينما (الجانب الأنثوي داخل الرجل)

وغالبًا ما امتزجت عمليات تقديم الخبز والخمر معًا في الطقوس الجنائزية واحتفالات الحصاد عند شعوب كثيرة قديمة وحديثة. وفي كتابات مقدسة وغير مقدسة، ومثلما صب سقراط قطرات من الخمر كتقدمة للآلهة من الكأس الذي تناوله وكان يحتوي على السم قبل موته، فكذلك كانت أصحاب بعض العقائد القديمة يقومون بكسر الخبز إلى قطع صغيرة وتقديمه إلى أرواح الموتى، ويحلف بعض المصريين حتى الآن على الخبز وهو يصنعونه على أعينهم قائلين: "والنعمة الشريفة: لم أفعل كذا"..!! هكذا يكون الخبز قرين النعمة والشرف، ويكون غيابه دلالة على الجوع أو الموت أو غياب العدل والشرف وحضور الظلم والظلمة وكل احتمالات الفناء أيضًا.

أمام المخبز تجمعت النساء: "الأم التي تطعم رضيعها من ثديها، والمرأة التي لم تنجب" والتي أنجبت خمسًا، أو التي انقطع طمثها، والتي لم تتزوج، كلهن وقفن يشاهدن كي يرضع الطفل من ثدى أمه، دونما حاجة إلى الوقوف في طابور للخبز، أمه تقف بدلاً منه وهو سيجئ دوره يومًا ويقف هنا، وكلهن وقفن يحدقن فيها، ثم انتبهن إلى ضرورة أن يعدن كي يواصلهن وقومهن في ذلك الطابور الذي لا يكاد أن ينتهي.

الخبز أيضًا وسيلة للتساند والتكاتف، والحكي والابتسام والدمع والشجن والشعور بالفخر والشعور بالعجز، للعودة إلى المنزل عودة الفاتحين المنتظرين خبزهم صرعى تحت الأقدام الجائعة. والطابور كذلك وسيلة للشتم والتلسين والتجريس، وللحديث عن تزوير الانتخابات وتسجيل أصوات الموتى في الكشوف، وللحديث عن الصحف الكاذبة والأمن المركزي القمع و"ضرورة الخجل".

الخبز موضوع الرغبة لدى الصغار والكبار


ومثلما تكون لقصائد النثر لدى كريم عبد السلام في هذا الديوان وفي دواوينه الأخرى الخاصة، مناخها الشعري الخاص المميز والمهيمن، فكذلك تكون للخبز روحه، فعندما يكون الخبز ساخنًا تظهر ابتسامات الناس المشجعة ونصائحهم الودودة، يضعون خبزهم الساخن إلى جوار بعضه البعض، كما لو كانوا يحتفلون به جواز السور للمجاور للمخبز، يقلبون أرغفتهم في فرح، تحملهم روح الخير إلى آفاق أخرى، غير تلك التي كانت تهيمن عليهم قبل أن يحصلوا عليه، يضعون الأرغفة بانتظام في الأكياس التي تحمله. إن روح الخبز حامية ساخنة، وروح الخبز تهدأ وروح الخبز تغضب، روح الخبز لا تغادر الزمان ولا المكان، روح الخبز تمنح البركة وتطلق اللعنة، هذا على الرغم من أنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان".

الخبز يحضر، الخبز يظهر، الخبز يختفي، الخبز ينفد، الخبز يقود البشر من مخبز إلى مخبز، رجالاً ونساءً وأطفالاً، شيوخًا وعجائز وصبية، والطفل يقود مسيرتهم، وهو مزهو بنفسه، والجميع يسيرون خلفه، يسلمون له قيادتهم، إن قائدهم نحو الخبز، نحو المخابز، وهم يبتسمون له، ويطيعون ما يقول. الخبز هو الحياة، والخبز هو العمل، والخبز هو الذي يجعل العم سيد يضع بيده بين فكي النمر من أجل نصف جنيه "وهو أيضًا من يزعق في الوحش فيرعوي" وهو الذى أصبح يتوكأ الآن على عصاه يهش بها على وحوشه، وحوشه الموجودة في واقعه والموجودة في خياله

العم سيد الذي ينتمي إلى الماضي في "صورة بالأبيض والأسود"، لكنه ينتمي أيضًا إلى الحاضر، وذلك لأن "ابتسامته الكسيرة" لا تزال هي هي نفسها تلتصق بشفته منذ خمسة وعشرين عامًا، العم سيد كان يحدد اتجاه النمور داخل أقفاصها، لكنه وبعد إصابته وشيخوخته عاد إلى قريته وأصبح "يجدل الخوص أمام بيت أبيه" وهكذا "وبعد خمسة وعشرين عامًا من التحديق في عيون النمور.. لابد لأب لديه خمس بنات جائعات أن يكتسب شيئًا من الحكمة، "والعم سيد ليس بأحمق ولا مقامر ولا معتوه، لكنه أب لبنات جائعات، أب عاقل وخائف وحالم، لكنه في لحظة ما تغلب جوع النمر على جوعه فالتهم قدمه، هكذا أطبق النمر "عنتر" فكيه على خمسة وعشرين عامًا من الشقاء"..!!

والخبز "أشبه بالأوعية الفرعونية القديمة وسيلة للمقارنة بين من يطعم خبزه للبط، ومن يطعمه للأبناء، من يأكله كاملاً، ومن يأكل أطرافه أو منتصفه، من يحصل عليه بكرامته، ومن يحل عليه بتقديم تنازلات للخباز، يا رب أرزقني العافية حتى أسبق جارتي في الصف، أرزقني خبزًا أحسن من خبزها".

والخبز موضوع ترنيمة الجدة وهدفها ووسيلتها، لأن تحصل على خبز طري أعطهم خبزهم يقول السيد المسيح "أعطنا خبزنا كفاف يومنا" – أعطنا يا رب بركة ونعمة وخبزًا طريًا "لا كسرات ناشفة، هكذا يكون الخبز أداة دعاء للرب كي يكون الآخرون أكثر محبة وحنانًا وشفقة بمن يكبرونهم أو لا يستطيعون الحصول على الخبز بأنفسهم.

الخبز موضوع الرغبة لدى الصغار والكبار، وجوهر ترنيمة الطفل الصغير الذي يتمنى دائمًا أن يتحول الرغيف الساخن في كيسه إلى فطير ساخنة، إنه الطفل نفسه الذي يتعدل سلوكه وهو في طريقه اليومي على عبور الشارع فيتوقف من ضرب القطط بالحجارة، كذلك كان أحمد البدوى ذلك القوي الحسن ظاهريًا لكنه أيضًا الكسير النفس داخليًا؛ فلاحًا قويًا وعاملاً قويًا ترتبط صلاة الفجر لديه بالعمل، لكنه عندما لا يجد عملاً يتوقف عن الصلاة ويظل يستمع لصوت طفله الصغير البالي ويتحاشى النظر إلى عيني امرأته اللائمة، أحمد البدوى لا يكف عن النظر إلى السماء يناجي ربه قائلاً "أنت تعرف.. أنت تعرف وكلنا نعرف. بالطبع ما الذي كان يريده أحمد البدوي؛ كلنا نعرف ما الذي كان موضوعًا لرغباته، إنه الخبز والرزق والستر والكفاية، وبعد الخبز قد يجيء الحب.

حب و إيروتيكا


في ديوانه "قصائد حب إلى ذئبة" يكون الحب الموضوع الأثير لدى الشاعر كريم عبد السلام والذي تتوق نحوه الرغبات ،هنا رغبة قادرة متأججة متوهجة لكنها متوجهة نحو امرأة ما، رغبة ما إن تخمد ويخبو أورارها حتى تعود فتتأجج من جديد، هنا حب يصفو وحب يخبو، ورغبة مقرونة بالأيروتيكا وأفعال خاصة الشبق وكذلك الافتراس والازدراد والافتراس المقابل والالتهام، ما بين رجل وامرأة وعاشق ومعشوق، هنا يتحول الحب إلى فعل جسدي، يتحول خلاله العاشق إلى ما يشبه هانيبال ليكتر عاشق يأكل لحم معشوقته ويرتشف دمها ويقضم أجزاءً من جسدها، وكذلك كانت تفعل، هكذا تحضر فتيشية الجسد على نحو واضح متمثلة في اليدين والبطن والشعر واللسان وغيرها من أجزاء الجسد، تحضر أجزاء كي تدل على الكل، وفي حضورها تومئ بما قد كان ما قد غاب: "هذه يدي، ما كانت يدي، أضعها في أي مكان وأنساها، لا تعني حركتها، بما تمسك أو تلمس، ما كانت يدي، الآن، متروكة ذابلة"، وكذلك كان حال القدم تلك التي كانت التي تتحرك وكأنها تتذكر أو تتراجع للخلف خوفًا، وقد أصبحت الآن متروكة ذابلة أيضًا. وهنا، في هذا الديوان، نجد بقايا العلاقات، بقايا الأشياء والمشاعر، الآهات الخفيفة والقبلات، وثمة أيادِ قاسية تضغط على القلب، حكايات الأشياء والبشر والحب وما يبقى بعد النار من رماد وأثر وتساؤلات مثل: "أين ذلك الآن؟ في الأوبرا!؟ ماذا تفعلين؟ أضع لهب شمعة تحت قلب غافل، هالات حول العينين، في الخمر معنى ليس في العنب".

الحب والخبز أشبه بالباب الدوار يدخل إليه الإنسان ويخرج وهو يريد بابًا لحصن أدخله وأحتمي وراءه.. ألمسك وتنتهي اللمة.. أقبلك وتنتهي القبلة.. أيمكن أن أظل ملامسًا لك في كل لحظة.. أن أقبلك قبلة لا تنتهي.. إلى أين يتسرب الحاضر.. من بين أصابعنا.. اقبض على بقوة..لا تفلتيني.. ربما إن ظللت ألمسك هكذا.. نهزم الموت.. موت القبل واللمسات.. والحب في مواجهة الموت الذي يحيط بكل شىء.. وعواء ذئبه.. أظافر على الظهر.. رعشة شفتين.. بقايا روائح.. شعر متساقط.

هنا نجد الشعور الداخلي الشاحب، والألم المكبوت والذكريات الشاردة والحدائق الذابلة والحقائق الغاربة وحزن ما بعد الغرام، أين ذهب ذلك كله؟ هل كان حقيقة أم خيالاً! هل واقع أم سراب، يقظة أم كابوس؟: "ألمسك وتنتهي اللمسة، أقبلك وتنتهي القبلة، أيمكن أن أظل ملامساً لك في كل لحظة، أن أقبلك قبلة لا تنتهي.. إلى أين يتسرب الحاضر هكذا من بين أصابعنا؟!".

وهنا تصوير بارع مفعم بالشجن والحنين لموت القبل واللمسات واللقاءات والحب، الأظافر التي على الظهر ورعشة الشفتين والنداءات وبقايا الروائح والشعر المتساقط والنداءات التي قد تتحول إلى عواء كعواء الذئاب، لا شىء يبقى الكل يمضى نحو متاهة الغياب، التفاصيل الصغيرة هنا لا تحل محل العالم الكبير، فالعالم الكبير قد اختفى وزال، كأنه لم يكن، والمشاعر المتأججة أصبحت رمادًا، ولا يوجد "فينيق" الحب أو الرغبة سوف ينهض من بين الرماد، كل شىء راح وانقضى، وما كان من حب وتوهج وانصهار قد مضى، بقيت فقط آثار "تلك الأقدام الصغيرة بلا طلاء على الأظافر تدل على حدق جلل قد حدث، وصور أيضًا في الذاكرة الشاردة خاصة بحبات عرق، عروق دقيقة خضراء، ندية على الكاحل، "ظفر الإبهام سيظل مصابًا إلى الأبد، نصفه ضاع، وبقيته شاهدة على الشاحنة التي عبرت".

فقط بقيت الصور شاهدة على أصول تبددت هكذا تقود الذاكرة الحسية ذات الشاعر وأحلامه الشاردة، ومعها تحضر كما كان حال جرينويل في "العطر" حاسة الشم المتجاوزة للعادي: "فجأة قويت عندي حاسة الشم ولا أملك إلا أن أتبعها، أنفى يهديني فأتحرك وراء روائحك بعد المصافحة أو اللقاء الحميم، وتكون هي التي تسكنني وتحدد اتجاهي".

وهكذا، فإنه هنا، وفي هذا الديوان ثمة استدعاءات متواصلة من رجل لامرأة ومن امرأة لرجل، عاشق وعاشقة، يستحضر كل منهما الآخر، يتذكر ما كان منه، وما كان بينهما، وما بقى بعد تلك اللقاءات، يتذكر و"يغمغم: لو رأيت يديها، لو رأيت يديها على الطاولة.. قبضتى الآن مضمومة على لمسة من يدين وديعتين.. ولا عمل لي إلا انتظارهما" يتذكر تحولات الصباح والمساء، ومرور الزمن وانقضاء الحميمية، البثور القديمة، والشعرات البيض والتجاعيد والأسنان المكسورة، والهالات حول العينين، ألواح الثلج التي تجىء وتحل محل النار

"نحن الذين هربنا من العالم على إيقاعات باخوس، كيف أصبح الصمت هو المشترك بيننا، والغرباء الملاذ لكل منا" ويتذكر كذلك "الجرح الذي أصاب يدها في الصيف الماضي، وأغنية يدندن فيها اسمها.. كان يغنيها مغنى متصاب لا تحبه، يتطلع إلى صورتها ويبتسم، يحدثها عن دروس العزف على الجيتار، وينتظر عودتها لكنها لا تعود!!" تلك التي تبدل ملابسها بخفة وتقلب جواربها وتندهش من تقدمها المفاجئة، تضرب الهواء ضربات منتظمة "فيتحول في تيارات من حولي"، تتحول صورته وصورتها في المرآة إلى صور لكائنات خرافية، كائنات خرافية ترسم صورهما في المرآة تتحول في حالهما من الحلم إلى اليقظة ومن اليقظة إلى الحلم

والحلم أنواع واليقظة أنواع وأشدها وقعًا ومرارة وتأثيرًا تلك اليقظة الخفيفة التي تشبه حزن ما بعد الغرام، هكذا تمعن الذات الشاعرة هنا في الالتقاط للتفاصيل الصغيرة والخلجات واللمسات والمشاعر العابرة المرهفة المرهقة، تلك التي تتحول بدورها إلى ما يشبه الطائر الذي يمضي إلى وجهته ويتحول هو إلى ما يشبه الحجر، لكنه حجر يبتسم نحوها ويرشف الشاي في رشفات متتابعة، وثمة مشاهد اللقاء المفاجئ والدموع والقصص المختلفة، الحب والتظاهر بالحب ونهايات الحب والذهاب نحو طريق آخر، الخداع والاستعداد للتسامح والغفران والتغاضي مرة عن الخداع، لكن الخديعة تستمر والخداع يتواصل، يحب ابتسامتها ومجيئها الدائم إليه بعد صدماتها وهزائمها ومراراتها، تجىء إلى بابه وتهمهم باسمه لكنها سرعان ما تغادره وتذهب إلى آخر الدنيا، تبحث عن آخر:
"فابتسمت وأنت تنظرين ناحيتي ولأن الله لم يخلق لي عينا خلف رأسي لم أشاهد الآخر الذي عبر جواري ومد كفه فأعطيته يدل بينما تقهقرت أنا إلى البار".

"الغريم" يظهر دائما


وهكذا فإنه ثمة غريم دائم يظهر في القصائد ويحبط رغبات الذات الشاعرة، تلك التي تتمنى قتله واقعيًا، لكنها لا تستطيع، فتقتله رمزيًا.. "كم أتمنى أن أكون واحدًا من الملتحين الغبر على جبال تورا بورا لأطبق حد السرقة على كفه الآثمة لأرفعها عاليًا أمام شاشات الفضائيات، كفه اللعين كفه العنينة" الغبية الرخوة مثل أكف بنات الثانوية" وفي قصيدة "منها إليه ومنه إليها" نقرأ على لسانها هي: من أجل أيامنا الخوالي أريد القميص الأزرق الذي اشتريته لك، أريد رائحتك فيه وأريد حياتك محطمة، أريدك هائمًا في الشوارع تهذي باسمي، تفرط في الشراب وتضرب رأسك بالمنضدة، وكلما صادقت أحدًا من أصدقائنا بكيت بين يديه، لأني أطفأتك مثل شمعة.

هو هنا يتخيل أنها تفكر فيه، يسقط ما يتمناه من مشاعر وإحباطات تجاهها عليها، يتمنى أن تكون لا تزال تفكر فيه، كأنما مازالا موجودين مثلما كانا في أيامهما الخوالي.

"في خريطة الآهة" ثمة شهقات، آهات، وصرخات، أفعال وفحيح، ومع الاستعادة والتذكر يبقى الحنين ويبقى الأنين، تبقى الظلال ولا يبقى الشجر، هنا ظلال بلا أشجار ومشاعر بلا بشر، وما يبقى هو الحزن، وتبقى آهات خافتة تحاول استعادة أفراح ولت، بينما بقيت ظلالها مسيطرة على الوجدان وتبقى الروائح والعطور، يبقى عطر كاترينا، كاترينا زيتا جونز" الذي خدشها أطونيو بانديراس فيلم قناع زورو فانكشفت وكان عريها كافيًا لأن يخضع أنطونيو وسيفه" وهو عندما قبلها، تذكر عطر حبيبته، وكان من نوع الكاترينا والذي جذبه من لسانه إلى كيانها كله، هي الآن بعيدة، لكن عطرها باق معه "شاهد على أن العالم صياد بلا قلب، اختطف ذئبتي ومضى بها إلى قفص ناء بينما أشم رائحتها في كل شىء حولي أعوى وأدور في الليل وأسمع عواءها يجاوبني بأن عسلها يقطر الآن الأرض"، وهو أيضًا ذئب وحيد شارد لم يبقى منه سوى عوائه.

هكذا يبدو ديوان "قصائد حب إلى ذئبة" في قصائده الأخيرة خاصة رغم ما تحفل به من ايروتيكية. وكأنه تمهيد للديوان التالي له، وعنوانه "أكان لا بد يا سوزي أن تمتطي صهوة أبي الهول" وذلك لما بينهما من قرابة بنيوية وأيديولوجية وروابط وصلات بينهما لا تخطئها العين.

"ماذا لو" كانت قد عاشت حياة العاديين من البشر


في القصيدة التي أخذ هذا الديوان عنوانه منها وهي عن سوزي – سوزان التي قدر لها يومًا أن تكون ملكة مصر نجد مقارنة بينها وبين ماري أنطوانيت وأحوال الناس هنا في مصر وفي فرنسا خلال الثورتين. وأمنية أنها لو كانت عاشت حياتها العادية ولو عرفت أحوال النساء الأخريات لربما لم يكن ليحدث ما حدث، لكنه حدث وسيحدث خصوصًا عندما تبتعد السلطة عن رعاياها "لو أن لي يدين خارقتين لصنعت شبيهة لك ليس صعبًا أن تكون هناك أكثر من سوزي. موظفة بمجمع التحرير، تجاهد كل صباح حتى تلحق بالدفتر الحضور والانصراف عاملة بمصانع المحلة الكبرى، تتوكل على الله وهي ترجو وجبة ساخنة لأطفالها".

يتمنى لو كانت فلاحة من أسيوط تزرع أرضها مع الفجر، ولا تتذكر من العالم سوى الستر والصحة ولم شمل العائلة – "أضعك مكانها وأضعها مكانك، وأراقب دورة العناصر، وسطوة الجنيات، أن تفسدي قيراطين من الأرض أو ماكينة في مصنع، أو مكتبًا حكوميًا؛ أهون كثيرًا من تدمير بلد بكامله..".
هكذا تكون الأخطاء الصغيرة للناس العاديين كبيرة بالنسبة إليهم, وتكون الأخطاء الكبيرة لغير العاديين هينة بالنسبة إليهم، إنهم ولتجبرهم رغباتهم وعنادهم وبلادتهم لا يدركون أنهم يدمرون بلادًا ويحرقون مستقبلاً. هذا ما فعلته سوزان وعائلتها عندما اعتلت صهوة أبي الهول، عندما حكموا مصر فأفسدوا البلاد والعباد.

وهكذا فإن الآخر حاضر دائمًا في القصائد، إنه لآخر يحبط الرغبات دائمًا ويبدوها.. "حين فتحوا المزاد على بدني، كنت غائبًا في نوم ثقيل، ذهب بي إلى جزيرة السندباد حيث الغيلان يقدمون للبحارة طعامًا يسلبهم عقولهم ويملؤهم بالشحم ثم يقصفونه رقابهم ويشوهونهم على السفور".

وأيضًا: "كنت مغشيًا علىّ.. من الألم والحزن والسأم والشقاء والكآبة ليس ترفًا أن تهرب الروح قليلاً ليس ترفًا يستوجب العقاب أن أدير ظهري للعالم أن تختبر الرحيل في فاصل قبل أن أقرر مرة وإلى الأبد.

في قصيدة "المدينة" نقرأ "المدينة تموت.. دخان أسود يتصاعد إلى السماء.. الصحراء تتحرك بجبالها وكثبانها وتحاصر الغيوم.. النيل يجف تدريجيًا حتى أفصح عن أسرار القاع.. هياكل عظيمة تتعانق.. جماجم بدون هياكل.. هياكل نساء يتكون من حول أطفالهن.. هياكل رجال يدفعون أذى غير مرئي لكنه لم يُدفع، فاستقرت عظامهم في القاع الطيني المتشقق المدلل تنحى عن العرش.. الكل باطل.. قالها أخيرًا"
كذلك فعل قائد الجيش والمطرب العاطفي، أما الضباع "بألوانها الغبراء والمرقطة" فقد أصبحت تجوب الشوارع في جماعات بجذوعها المشوهة ورائحتها الكريهة وتهاجم كل من تصادفه. أما المتسولون والعجزة والعاطلون واليائسون.. فقد خرجوا إلى الشوارع بصدور مرفوعة وجباه عالية. وكأنهم ينتقمون، يبتسمون وكأنهم قد حصلوا على خلاصهم. وحدهم الأطفال تساءلوا: كيف تموت المدينة قبل نعيش، وخرجوا يبحثون عن الموت ليطرحوا عليه الأسئلة، وحدهم الأطفال كانوا المنتصرين، وحدهم الذين لم يهيمن عليهم الناس ولا القنوط ولا التشفي ولا التلون والخداع، وحدهم الأطفال كانوا المتفائلين.

إنه عالم أشبه بنهاية العالم وبداياته قبل الكوارث، أو بعد أو خلالها. غربت الشمس وجاء الليل وهطل المطر وزمجرت للسماء بالرعد والبرق وأصبحت الدنيا وكأنها في يوم الدينونة وجلس الجميع ينتظرون الموت، أو الرعب والكابوس، لكن الموت لا يجىء، والرعب سرعان ما يتحول إلى طمأنينة، ففي الصباح كانت الشمس في موعدها، والأشجار تهتز مع النسيم كأنها تحتفل ورائحة الخصوبة تغمر الأرض.. ثمة يوم جديد وحياة جديدة بعد أن اجتاح الطوفان شوارع المدينة، هربت الضباع وضحك الأطفال وجاء حياة على مستوى الحلم والتمنى، أو هو هكذا ينبغي أن تجىء.

وفي قصائد أخرى، لكريم عبد السلام نجد نوعًا من التمنى وكذلك الرغبة في التخليق لعالم بديل، هناك خيال تخليقي على طريقة "ماذا لو": ماذا لو تحكم أسرة مبارك مصر، ماذا لو هيمن الموت على المدينة، وماذا هنا أداة إزاحة للواقع إلى حدود المتخيل والخيال البديل، ماذا لو كان الخبز متوفرأص أكثر؟ ماذا لو طال زمن الحب ودام صفوة؟ "هل أستطيع إيقاف الزمن لأثبت المشهد إلى أن تهربي من شارع جانبي لا أدري يا سوزي لا أدري حقًا".

وكذلك يستخدم هنا الشاعر آليات المونتاج واللقطات المقربة والإبداع والإحلال والاستبدال بالواقع بمشاهد أفضل متخيلة وبديلة.
وفي قصيدة "الوريث يتساءل الشاعر" ماذا لو تخلى الوريث الذي كان يحلم بحكم مصر عن حلمه؟ ماذا لو ترك القطارات المحترقة والأحياء المطمورة في المقطم "تحت صخور الجبل" وكذلك "المقابرالمأهولة"، والمياه الملوثة والتراث التي يكسو الوجوه والبيوت والمرضى من الفلاحين والعمل وأبناء السبيل؟.

"ماذا لو تركت هذه البلد الذي كان عنه دائمًا أنه ميئوس منه، وعن أهله إنهم لا يعيشون إلا بالعصا ونظام السخرة!، ماذا ستفعل بهذه الأرض المترامية.. ماذا يفيدك أن تظل المدن المتهالكة وسفلتها، والصحراوات وبدوها المتقبلون والقرى وفلاحوها الخبثاء والعشوائيات وأشياء بشرها معلقة في رقبتك"، ثم يقول:
"لو كنت قد تركت هذه المجاعة وهذه المأساة وذهبت كي تنعم بشمس باريس ومن شرقه جناحك في "ريتز" قمت بالتطلع إلى قمر الصيف المكتمل في السماء، لو كنت قد فعلتي ذلك، فلربما كان العالم الآن أفضل".

في قصيدة الكلمات الأخيرة للمهرج "ص" يضع الشاعر نفسه داخل إحدى الشخصيات المعروفة كما فعل من قبل، يتخيل ذلك المهرج "ص" الذي كان موجودًا كظل للحاكم، ومسئولاً عن دعايته وإعلامه، لكنه لم يكن في الواقع، غير نفسه، حتى النهاية، "إنه حامل النكات البذيئة وأخبار المسامرة، حارس المسرات والشهوات وكاتم الأسرار وما هو في واقع الأمر سوى حشرة تزحف بين الحشرات وزاحف بين زواحف وضباع آكلات الجيف.." حشرة تدرك أنها حشرة تحيا بين حشرات أخريات جاهلة

ماذا كنا ننتظر منه أن يكون غير ذلك، هل كنا ننتظر منه أن يدافع "عن حقوق المظلومين والفقراء" أو أن يقول كلمة حق في وجه سلطان جائر، لم يكن هو إلا مجرد ظل له أو تابع أو إمعة في ركابه!

لقد كان عليه أن يمضي في طريق مفروش بالكذب والخداع وأن يتوغل في العتمة والشر والإيذاء والوقيعة، وكلما فعل ذلك كان يفقد جانبًا من روحه حتى أصبح فارغًا تمامًا.. كما أنه أدرك أنه قد تحول إلى لا شىء، بالأحرى تحول إلى شىء، إلى نفاية، فقد ذاته وإنسانيته، لكنه وفي الوقت نفسه يدرك أيضًا أنه قوى ومفعم بالطاقة، وأن ما يفقده هناك يكسبه هنا، فهو اللاعب الأمهر، المسيطر على الأرواح.. وجامع الأرواح ومجامعها وسارقها أيضًا، أنه يجلب أشجع الرجال بعصاه، ويقدم أجمل النساء وحماة الأخلاق والمتعصبين وغيرهم ويدفعهم للسجود أمام الوثن الأكبر

كانت الحياة بالنسبة إليه قد تحولت إلى غابة، يقوم خلالها بدور الضبع في خدمة الأسد.. بينما تمور داخلي الغابة ووحوشها الجائعة" هو مهرج، لكنه أيضًا مهرج حزين، ضعيف ظاهريًا وقوى داخليًا، هو المتحكم حتى في الوثن الأكبر، يعرف نزواته بحماقاته ورغباته ويلبيها، موصوم باللعنة إلى الأبد، لكنه يعرف أن هذه المدن "مصنوعة من الغش والأكاذيب" وأن أنوارها تستحق الإطفاء وأن شوارعها ومقاهيها زاخرة بالشياطين والرجال الجوف والداعرات.. حيث يوجد فيها دائمًا المأبونون واللصوص والقتلة وتجار الدم، وفي أعماقه كان ذلك المهرج "صانع المجد الملطخ بالسخرية" يتمنى أن يملأ عينه بابتسامة طفل أو يراقب "الزهرة" وهي تلمع وحدها في السماء

كان يتمنى أن يرى ابتسامة واحدة نقية.. أو أن يرى نظرة رضا لا أكثر لكن فيضان الكراهية لمن يتدفق دومًا في قلبه دون توقف، وقد كان يدرك أن مياه جميع البحار لن تزيل الوسخ عن روحه، هكذا أصبحت الحياة لديه أشبه "بغابة واسعة مليئة بالأشجار والكائنات" وقد ضاع اسمه بين أدغالها وضاعت بلادنا في ظلال ابتسامته، تلك الماكرة الخادعة.

هكذا تعملق حضور الديكتاتور في ظلال ذلك المكر والخداع والتجنى والظلم ضاعت الأعمار وضاعت "سنوات الأمل والأمنيات العريضة" ومثلما كان الناس يبحثون عن الخبز ويسألون عنه في كتاب الخبز أو عن الحب ويبحوث عنه في قصدة الرؤية، تساءل الناس "أين أعمارنا.. أين سنوات الأمل والأمنيات العريضة.. أين الأسئلة الأولى والرهبة الأولى والتقنيات الأولى.. أين نذهب الكراهية والأحلام الجريحة؟

أما الديكتاتور المبجل "فقد عبث بالزمن، الديكتاتور غير المبجل أوقف الزمن، فلم يعد لدينا شروق أو صبح أو ضحى أو ظهيرة أو غروب أول ليل.. انتهى الوقت إلى الانتحار البطىء البطىء". وانتهى الناس إلى الفشل الكلوي والسرطانات والزهايمر والشيخوخة المبكرة، "اختفى المستقبل كأننا خسرناه في مغامرة ضاع فيها الكمال والجمال والوعد والفرح والزعل، ضاعت القوة وأصبحنا أشباهنا الضعفاء.. كسوراً كسورًا ليس فينا واحد صحيح".. صارت المدن "تنام متكومة مثل أطفال الشوارع"، وأصبح الليل "يهبط كئيبًا خانقًا، وبلا أمل صار الناس يرغبون في الرحيل، بعيدًا عن هذه الحياة أو عن هذا الوطن، أصبحوا مجرد موتى يستقبلون الحياة كل صباح"، صاروا في متاهة أو هاوية أو سرداب لا قرار له، بينما القاع يهرب يهرب يهرب..
"أيها الدكتاتور المبجل أتعرف أننا لا نتوقف عن السقوط حتى أصبح القاع حلماً والغرق نهاية مشتهاه"... وكيف أصبحنا فريسة لهذه الكائنات الكريهة، لم أصبحنا جثثًا تستدعى الذباب؟"

وللمهرج "ص" صوره المتكررة وإن على نحو أقل تأثرًا ووضوحًا، ومن صورة ذلك المخبر الذي يظل يطارد الذات المتكلمة الشاعرة هنا "قبل الفجر وخلال صلاة الظهيرة، وعندما يسيطر الليل" المخبر الذي يهرول وراءه بخطواته "كأنما يطمع في الإمساك بخيالي وأنا أتنقل من شارع إلى شارع"، وهنا المخبر يتحول إلى ثعبان "ذي جلد مرقط ولسان مشقوق ونابين مترعين بالسم، "يتحول إلى خائن، يتحول إلى يهوذا، يحمل بيديه تاج الشوك للسيد المسيح ويدل عليه، يجري إلى العسس ويقف منتظرًا ثم يشير إلى الذات الموجودة في القصيدة. "ثم ارتفعت سبابتك بالإشارة إلى ظهري".

والمخبر هنا ليس شخصًا بعينه، بل هو حالة أو نمط أو قطاع، مرة يكون ثعبانًا بجلد مرقط. ولسان مشقوق ونابين مترعين بالسم ومرة يكون يهوذا الخائن الذي سلم السيد المسيح بعد العشاء الأخير ومرة ثالثة يطرح معطفه الكاكي ويلقى بالجريد المثقوبة ويحمل في يده قلماً بدلاً من الخيزران الصغيرة هكذا يتحول المخبر أيضًا إلى كاتب يجلس على المكتب المواجه له يشرب "قهوة الصباح يصطنع أعراض التفكير: وينتحل الكتابة ليمسخها ادعاء ولغوا وتهريجًا". كيف تحولت هذه الحالة إلى نمط وإلى قطاع عريض ولماذا أدخلتنا في التجربة يا وطن..؟ لماذا ينسحقون ويقهقهون أمام شتائم أسيادهم، لماذا تحولوا إلى تلك الحالة من العدمية والاستمراء للاغتصاب وإهراق جاء الوجه والتسول والاعتياد على المهانة.

لا تخف.. انهم الموتى


في قصيدة: "لا تخف.. إنهم الموتى.. يحبون الجلوس على مقاعد الكورنيش" نرى نوعًا من التمني والرغبة لدى الذات الشاعرة في أن تترك هذا العالم وراء ظهرها، أن تنسى ما به من ازدحام ومشاجرات وتحرشات، أن تتناسى أنها عندما تحدق في النيل " سترى جثة الحصان التي يظهر نصفها الأبيض"، وكذلك ورد النيل "الذي يجمع حوله الأوشاب والقمامة".. هل يمكنك ذلك؟! "إنك حينئذ لن يفاجئك أن تجد رغبات ومواقف ومشاهد معاكسة متناقضة مع رغباتك الحالمة الأولى، أن يأتي شاب جريح ليجس إلى جوارك مبتسمًا في مرارة: "أنا ميت.. هذا جرحي القاتل.. الرصاصة جاءتني من الخلف.. مرت بقلبي وخرجت ومعها أحلامي.. شاب برأس مهشم وساقين مهروستين وصدر منبعج وحالة يائسة تؤكد استحالة بقائه على قيد الحياة كدليل على أنه لا يكذب".

موتى يجيئون ويذهبون، يجيئون كي يتأملوا "صفحة النيل النسابة في وداعة" بينما تظل الشوارع مختنقة بالزحام، والعابرون يتشاجرون بلا توقف. والصبية يتحرشون بالفتيات بلا نخوة، ويظل الموتى يجيئون، لأنهم "يحبون أن يسندوا ظهورهم إلى مقاعد الكورنيش الحجرية، يجيئون ويذهبون، يتأملون النيل، يتمنون أن تكون الحياة في مصر مثل النيل في وداعته ويكون الناس فيها في مثل رقته وانسيابه".

وفي قصيدة "الدم" يخرج الدم من شفاه مذيعة التليفزيون ويتراكم على الشاشة "ثم يسيل مثل عناقيد الندى، ومن عينيها يتدفق الدم، غزيرًا ويلطخ ملابسي، والريموت لا يحميني من السائل القاني المالح النفاذ، والدم يغمر السجاجيد والأرائك والحيطان، الدم يغرق الصالة ويغرقه، والصالة انفتحت على الميدان، وابنته الصغيرة تحمل دميتها بأسنانها.. تخرج على صوت شهيق فتجرفها موجة حمراء عاتية، والدم يرتفع ويتقدم ويضرب بغضب.. ويضرب بشراسة دون بصيرة".
ومثلما يندفع الدم من شاشات التليفزيون ليغرق كل شىء، فكذلك ثمة عيون هناك "عيون هائمة بيضاء بيضاء من الحزن في الليالي المظلمة، تظهر مثل فراشات مضيئة، قريبة للغاية، مثيرة للمس. بدموعها الحمراء التي تقطر في الهواء ثم تحوم مبتعدة لكم يستجيب للنداء أما زلت تبصرين.."، "لمن يذهب النور، ولمن العتمة، عندما تغمضين، هل ينام أحد ما، هل تغور الصور والذكريات في النسيان؟ عيون هائمة بيضاء من المرارة لا يمكن تجاهل اندفاعها الخانق وهي تبحث عن محاجرها التي غادرتها".

إنها "عيون هائمة بيضاء من حزن المرارة والحيرة والألم والغربة والخوف من القناصة، ومن الكلاب ومن القتلة العشوائية، من الحرباوات، من الوعد المكتوب بالإبر على آفاق البصر" من الدمار والدماء والحروب والظلم والتعصب المذهبي وضيق الأفق، ويتجلى ذلك كله على نحو واضح أيضًا في ديوان "مراثي الملائكة من حلب" (2015) حيث نقرأ "الملائكة مكسورة الجناحين، سقطت من سحابة على رأسي، بينما كنت أفكر في الخبز للعشاء باعتباره الحقيقة الوحيدة في الوجود".

ملائكة حلب


فى ديوان "مراثى الملاكة من حلب" يكتب كريم عبد السلام عن النساء، في سوريا، عن حلب في التاريخ، في التراث، عن خوف النساء هنا وهناك، وعن استباحة أعراضهن، عن الأوطان المهدورة عن الندوب الغائرة والجروح والموت وفقدان الهوية والطريق، عن الملائكة مكسورة الجناحين، عن الحب وعن الحرب وعن كيف تسقط الملاكات في الحروب، عن القتل المجانى والمعارك المجانية

الملاكة التى يتتبعها الشاعر فى الديوان هربت في حلب ومن حلب، لكنها لا تزال في الجحيم "حيث المقاتلون يصلبون الملاكات على أسرة حقيرة ويتناوبون عليهن، إلى أن تنكسر أجنحتهن ويمتلئن بالندوب، فيسقطونهن من الأعالي على رأس رجل يفكر في الخبز لعشائه باعتباره الحقيقة الوحيدة في الوجود"..

ملاكة حلب تريد الرقة والحنان والإنسان، تريد واقعًا غير هذا الواقع، تريد الحب والأرض والوئام والحماية والنور، لكنها لا ترى سوى القتل والصراع والظلمة والغياب والموت والسقوط والدمار والحصار والكآبة والوجوه العكرة والأدران المتحركة".

هكذا تحولت الذات الشاعرة هنا من ولعها بالخبز والحب والحياة والوجود الخاص، إلى عالم أكثر رحابة واتساعًا أيضًا، لكنه أيضًا عالم مفعم بالألم والظلم وغياب الإنسانية والحب، تريد ملاكة حلب كل ذلك، إنها تريد المحبة "لأن المحبة قوية كالموت" تريد الوطن، تريد أن ينهض" من رماده مثل عنقاء أسطورية.. تريد أن تتكلم وأن تحكي، تريد الأسماء والمعاني والمعرفة الخالصة، تريد أن تنسى الذئاب التي تناوبت عليها، والحرائق التي أشعلت الحقول والقذائف التي دمرت المدن والخرائب التي أحاطت بالخيال، تريد أن تحكي أن تتكلم اللغات كلها

هكذا بدأت حكايات الملاكة ومراثيها في حلب ومن خلال مزج فني بين حكايات الحمال والنبات الثلاث في ألف ليلة وليلة تحكى الملاكة ويحكي الشاعر حكايتها وحكاية أخواتها الثلاثة ومآسيهن التي صارت بلا عدد في حلب وغيرها من المدن السورية والعربية بعد ذلك الدمار الذي طال الأخضر واليابس ذلك الظلام الذي أطفأ كل تلك المصابيح التي كانت موقدة، وأطفأ معها كل تلك الرغبات التي كانت متأججة ومتعلقة بأحلام أطفال أو أمنيات كبار، صارت كلها مجهضة أو خافتة أو ميتة.
هكذا يتحرك الشاعر من تجسيده لرغبات وأمنيات تدور حول موضوعات محددة بعينها كالخبز أو الحب أو العدل على الرغم من الدلالات الكلية لهذه الرغبات وموضوعاتها، إلى الوصف والتصوير والتجسيد لرغبات كلية محبطة ومجهضة تتعلق بالأوطان وبالموت وبالانتهاك للنساء وخاصة والإنسانية عامة.

وهكذا يكون عالم كريم عبد السلام الشعري عالمًا زاخرًا بالرغبات المتعلقة بالحب والعدل والإشباع والتحقق والاكتمال، بيد أنها رغبات يواجهها دائمًا العنف والدم والمطاردة، والإخفاق والأسى والحزن واليأس، إنه عالم يمتلئ بالدراما الإنسانية والأحزان البشرية والرغبات ، عالم تملأه الأشواق ويهيمن عليه الإحباط، بل ويحاول أن يمزقه إربًا إربًا، وهو عالم مسكون دائمًا بمفاجآت شعرية خاصة ليست التفاصيل الصغيرة ولا الكبيرة هي المهمة هنا، بل طرائق الرؤية إليها هي المهمة ليس الموسيقى الخاصة ولا إيقاع القصيدة المهم، بل وقع الحياة وإيقاعاتها غير المنضبطة وذلك لأن الإشباع المرجأ والتحقق المؤجل واللاراحة الدائمة

هنا، عبر هذه القصائد النثرية نجد كذلك التضاد والتنافر واللا تجانس وغياب الاكتمال للرغبات، وحيث الناقص أو السارق للأحلام المخيف أكثر حضورًا من الجميل أو الجليل؛ هنا وجود يتجلى في المأساة، وعالم يتبدى في صور شتى في الموت والغياب وحضور الشر والأشرار، وإنها لصور تبقى في الذاكرة كرغبات مضت وانقضت، لكنها كانت في وقت ما أكثر حضورًا وتحققًا قبل أن تقوم في مواجهتها، وتحل محلها، رغبات أخرى متناقضة معاكسة.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة