عقدت الحكومة اجتماعا يوم 30 نوفمبر 1988، بعد ثلاثة أيام من تكريم الرئيس مبارك للأديب نجيب محفوظ ومنحه قلادة النيل بمناسبة فوزه بجائزة نوبل، وكان من الطبيعى أن يفرض حدث الجائزة نفسه على اجتماع الحكومة، فناقشت طبع رواية «أولاد حارتنا» لمحفوظ والممنوعة من النشر فى مصر، حسبما يذكر الكاتب الصحفى محمد شعير فى كتابه «أولاد حارتنا.. سيرة الراوية المحرمة»، مشيرا إلى أن ذلك جاء بعد أن قال مبارك: «ليس هناك ما يمنع نشرها»، فأعطى وزير الثقافة فاروق حسنى تعليماته لهيئة الكتاب للبدء فورا فى نشرها ما دام لا يوجد حكم قضائى يمنع.
يكشف «شعير» أن اجتماع الحكومة انقسم إلى فريقين، واحد يتزعمه فاروق حسنى ومتحمس لنشر الراوية، والثانى رافض ويتزعمه صفوت الشريف وزير الإعلام الذى طلب عرض الموضوع على الرئيس مرة أخرى، واستقر الرأى على عدم النشر بعد مكالمة جرت بين مبارك والشريف.
لكن فى اليوم التالى «1 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1988» وقعت مفاجأة وهى قيام «مجمع البحوث الإسلامية» بإصدار تقرير يجدد فيه منعه لصدور الرواية، وكان هذ التقرير هو الثانى بعد أن صدر التقرير الأول بالمنع قبل عشرين عاما، وتحديدا فى « 12 مايو 1968»، وحسب «شعير» فإن التقرير الثانى صدر رغم أن أحدا لم يطلبه، أو تقدم بطلب لمجمع البحوث لإبداء الرأى، ويتساءل شعير: «هل كان صفوت الشريف وراء هذا التقرير؟»، ويجيب: «لا أحد يعلم الإجابة حتى الآن».
يأتى «شعير» بنص التقرير الثانى فى كتابه، ومما جاء فيه: «بعد فحص رواية أولاد حارتنا، نجدها قصة رمزية واضحة الرمز، تشير إلى قصة الحياة والبشر، إلا أنها مع وضوح رموزها تحتوى على خلط شديد، ولا تنتظم فى سياق تاريخى أو خط رمزى مستقيم، ورمز فيها لفترات متعددة، فترة بدء الخلق حتى بعثة سيدنا موسى عليه السلام، وفترة بعثة موسى إلى بعثة عيسى عليه السلام، ثم بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم فترة التخلف والصراع على الإسلامى.. وهكذا.»
يضيف التقرير: «وقد جسد فى رمزه باسم «الجبلاوى» صورة الإله، ونعته بصفات مقذعة سواء على لسان إبليس «إدريس»، أو قدرى «قابيل» الابن العاصى من ولدى آدم «أدهم» أو الفتوات، وفى بعض الأحيان على لسان الرسل أنفسهم، أو فى تصوير بعض المواقف، وقد وصفه مثلا على لسان إبليس بأنه قاطع طريق فى القديم، وعربيد أثيم فى المستقبل، ووصف تقاليد أسرته بالسخف والجبن المهين وأنه يغيّر ويبدل فى كتابه كيف شاء له الغضب والفشل، ووصفه على لسان قدرى «قابيل» ابن آدم بأنه لعنة من لعنات الدهر، وأنه البلطجى الأكبر، وصفه على لسان أحد الفتوات بأنه ميت أو فى حكم الميت، ووصفه على لسان ناظر الوقف بأنه قعيد حجرته، ولا يفتح بابه إلا عندما تحمل إليه حوائجه، ووصفه على لسان عرفة «العلم الحديث» بأنه نائم غير دار بجريمته، ثم تنتهى القصة بموت الجبلاوى «الله» على يد عرفة «العلم الحديث».
يضيف التقرير: «أما بالنسبة للرسل فصورهم فى صورة من يرتاد «الغرز»، ويتعاطى المخدرات، ووصف جبل «موسى» على لسان أحد الفتوات بأسلوب التحقير بأنه خنثى، لا هو ذكر ولا هو أنثى، وعلى لسان نفسه ولسان تلاميذه بأنه سكير حشاش، كما نسب إلى رفاعة «عيسى» الزواج من عاهر، وإن لم يقربها، ثم ذكر بعد ذلك أن بعض أتباعه تجنبوا الزواج حبا فى محاكاته، وجعل ولادة عيسى ناشئة عن زواج، وأنهى حياة عيسى بالقتل، أما بالنسبة لقاسم «محمد» فاستعمل للنيل منه ألفاظا».
يذكر التقرير: «لا يخفف من هذه المؤاخذات أنها سيقت مساق الرمز لأن الرمز مصحوب بما يحدد المقصود منه بغير لبس ولا شبهة، ولا ما يذكر أحيانا على لسان بعض المغرضين، أو من استغرقتهم واستهوتهم هذه الأفانين من أن الكاتب يكتب فنا ولا يقصد به القصص الدينى»، وينتهى التقرير إلى حكمه: «قرر مجمع البحوث الإسلامية حظر تداولها أو نشرها مقروءة أو مسموعة أو مرئية، وكذلك حظر دخولها بناء على هذا التقرير وعلى تقارير الأجهزة الرقابية الأخرى».
استمر «محفوظ» فى الدفاع عن روايته بعد نوبل، وهى السنوات التى تصاعد فيها الإرهاب الدينى، حسبما يؤكد «شعير»، مضيفا، أن محفوظ قدم تفسيرا سياسيا لها فى حفل تكريم أقامه له قسم الفلسفة بكلية الآداب، جامعة القاهرة حيث قال: «الرؤية التى حكمتنى فى كتابة الرواية تتعلق بالسلطة ومواجهتها، الفتوات الذين كانوا يمثلون السلطة ويستخدمونها ضد الحارة، وأن هناك القيم التى يجب أن تسند العلم، فكان هدف أبناء الجبلاوى أن يعيدوا إحياء هذه القيم كى تسند العلم»، وقال بوضوح أكثر: «الرواية لا فيها حملة على الدين ولا سخرية من الأنبياء ولا زراية بهم، والأزمة كلها، أزمة قراءة لا أكثر ولا أقل».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة