رسائل بالغةُ القوَّة والوضوح حملَتْها كلمةُ وزير الخارجية، بدر عبد العاطى، أمام المؤتمر الوزارى الدولى لتعزيز الاستجابة الإنسانية فى غزَّة، وإذا كانت لا تنفصلُ عن ثوابت الموقف المصرىِّ إزاء القضية الفلسطينية، ومنذ «طوفان الأقصى» على وجه التحديد، فإنَّ تجديدَها اليوم من القاهرة، تحت عنوانٍ أخلاقىٍّ إغاثىٍّ، وفى جَمهَرةٍ من مُمثِّلى الدُّوَل والمُنظَّمات الدولية، إنما يُؤكِّدُ وَصْل القضايا ببعضِها من زاوية وحدة الحقوق وتكاملها، بقَدر ما تنفصلُ بما لا يسمحُ بتسليح الجوع، ولا بأن تتَّخذ أجندةُ الإبادة صورةً مُراوِغةً عبر الخَنْق والحصار وتجفيف موارد الحياة.
يستهدفُ المُؤتمرُ غايتين مُتلازِمَتَيْن: تحرير الجهود الإنسانية من لعبة التجاذُبات، ووَضع العالم أمام مسؤوليَّاته المُباشرة. والرغبة القريبة أنْ تتدفَّق المُساعدات على القطاع بانتظامٍ وكفاية، والبعيدة أنْ يُعادَ تفعيلُ الورقة الاجتماعيَّة، لتكونَ عاملَ ضغطٍ فى الذهاب إلى حلولٍ سياسيَّة لم تَعُد قابلةً للإرجاء، ولا تتوافرُ فيها رفاهيةُ الوقت والتلكّؤ. لا سيَّما أنَّ التوصُّلَ إلى تفاهُماتٍ موضوعيَّة بشأن المسألة، يُمكنُ أنْ يُقلِّصَ النشاط العسكرىَّ للاحتلال فى أرجاء القطاع، ويُطوِّعَ الفصائلَ المُتنازِعَةَ لإنجاز مُقاربةٍ وطنيَّة، تبدأ من إدارة غزَّة، وتتَّصلُ بعدها وعلى وجه السرعة إلى ترتيب عموم البيت الفلسطينى، وتحقيق الإجماع المفقود.
تعملُ مصر على دَفع العجلة المُتوقِّفة من نقطةٍ شبيهةٍ بما كانت عليه الحالُ فى بادئ الأزمة. وقتَها تسبَّب «الطوفان» فى إرباك الحسابات الإقليمية، وسَعَّر جنونَ الصهاينةِ إلى مَداه الأقصى، فوقَعَ العدوانُ الغاشمُ وأُغلِقَتْ الحدودُ بالمتاريس والنار. ومن «قمَّة القاهرة للسلام» فى أكتوبر قبل الماضى إلى مؤتمر الاستجابة الإنسانيَّة اليومَ، تبدو الأمورُ كما لو أنها عادَتْ لخَطِّ الانطلاق. الحربُ دائرةٌ، وإنْ بإيقاعٍ أهدأ، وأُفقُ السياسة غائمٌ تمامًا، وما يزالُ التوحُّش والانقسام عُنوانَىْ المرحلة داخليًّا ومع العدوّ.
وواجبُ الإنقاذ يقتضى تحريرَ المهمَّة الإغاثيَّة من نزاعات الأطراف وألاعيب «عَضّ الأصابع»، لكنَّ إدامتها تتطلَّبُ إرساءَ أرضيَّةٍ صالحةٍ للبناء عليها، بحيث يتراجعُ «نتنياهو» عن مَواقفِه الصاخبة، وتتقدَّم الورشةُ الوطنيَّةُ باتِّجاه قَطع الطريق على أهواء القُوى المُتصارِعَة بينيًّا، ثمَّ على الاحتلال ومُخطَّطاته التطهيرية من بعدِها. لهذا، يُمكنُ استشرافُ مَلمحٍ سياسىٍّ خافتٍ وراء المُؤتمر، لناحية أنه يطرحُ الصورةَ المأساويَّة عن الحرب، ليوقظ الضمائرَ ويضغطَ على الأعصاب العارية، أملاً فى فَتح ثغرةٍ قد تُفضِى إلى السياسة.
إسرائيلُ تُطوِّقُ القطاعَ برًّا وبحرًا من ثلاثِ جهاتٍ، واحتياجاتُ مليونَىْ غَزِّىٍّ تفوقُ القليلَ الذى تُمرِّرُه عبر معبر كرم أبوسالم، وقد ازدادتْ المسألةُ فداحةً بعد إعلان وكالة أونروا تعليق عمليَّاتها من تلك الناحية بسبب ضغوط الاحتلال.
وبهذا، فإنَّ تعزيزَ الاستجابةِ يُوجِبُ البحثَ فى إعادة تشغيل معبر رفح، والطريق إلى التوافُق بشأنِه يَمرُّ وُجوبًا من قناة القاهرة، ما يعنى أنَّ الالتزامات الواقعةً على تلّ أبيب إزاءَ المدنيِّين، حالَ استثمارِها على الوجه السليم، قد تُجبِرُها على إخلاء الجانب الفلسطينىِّ من المعبر، لكنَّ التصوُّرَ لا يكتملُ من دون إخلاء محور فيلادلفيا. وعليه، تعودُ المسألةُ الإنسانيَّةُ إلى حيِّز السياسة مُجدَّدًا، وتتعلَّقُ على الصفقة المأمولة فيما يخصُّ التهدئة وتبادُل الأسرى.
ولو افترَضْنا الوصولَ لخطَّة مُكتمِلَة مع الدولة العِبريّة، فالعقبةُ تظلّ قائمةً بشأن طبيعة إدارة المعبر، ومهمَّة الإشراف على توزيع المساعدات. تداوَلَ الصهاينةُ اقتراحًا بأنْ يتولَّاها جيشُ الاحتلال، ثمّ عَدَلوا عنه إلى إيكال العمليَّة لشركاتٍ دوليَّة، أو أمريكيَّة تحديدًا، وتبدَّت صعوبةُ الفكرة لاحقًا بالنظر لتعقيداتها الأمنية واللوجستية.
وما يَقطعُ الطريقَ على الأُطروحات الشبيهة المُشوَّهَة، والنابعة بالأساس من الأجندة الإسرائيلية الساعية للانفراد بحاضر القطاع ومُستقبله، أنْ يتوافَق الفلسطينيِّون على صيغةٍ تنفيذية تستعيد التلاحُم أوّلاً، وتُطوِّق نوايا العدوّ وتكبح خطّته، ولا سبيلَ لهذا إلا أنْ تُطرَح رؤيةٌ مُقنعةٌ للعالم وقُواه الوازنة، ولا تكونُ سببًا فى الإرباك والتنازُع لاحقًا، كما لا تُطلُّ على المشهد بجسدٍ يتخفَّى وراء آخر.
شدَّد وزيرُ الخارجية فى كلمته أمام المُؤتمر على رفض مصر الكامل والمُطلَق لسيطرة إسرائيل على الجانب الآخر من المعبر، أو استمرار وُجودِها العسكرىِّ فيه وعلى امتداد الشريط الحدودىِّ لمحور فيلادلفيا.. والرسالةُ نفسَها وصلَتُ سابقًا من طُرقٍ عِدَّة، وبعشراتِ الصُّوَر والصياغات، وبات مَقطوعًا لدى تل أبيب وواشنطن بأنَّ القاهرةَ لن تسيرَ فى أىِّ اتِّفاقٍ يُجمِّدُ الوضع الراهن، أو لا يُعيدُ جيشَ الاحتلال لِمَا كان عليه قبل اجتياح رفح.
وإذا ما تَعطَّلتْ محاولاتُ الاضطلاع بالالتزامات الإنسانية تجاه القطاع، من الدولة العِبريَّة بالأصالة، أو عبر وسيطٍ دولىٍّ: أكان رسميًّا فى علاقة سياسية، أو غير نظامىٍّ وفق تعاقد أمنىٍّ، فالبديلُ الوحيدُ والاضطرارىُّ أنْ تعودَ إسرائيلُ إلى المُقاربة المصرية، وهى تتوزَّعُ اليومَ على ثلاثة محاورَ مُتكاملةٍ: تجديد مُفاوضات الهُدنة، ومُصالحة الفصائل على بعضها، واستحداث إدارةٍ مَدنيَّةٍ جديدةٍ، تنوبُ عن السُّلطة ولا تتقاطَعُ مع حماس.
الحركةُ من جانبها تقفُ على مُفترَقِ طُرقٍ، لكنَّه لم يَعُد مُظلمًا وغامضًا كما كان طوالَ الشهور الماضية. انحلَّت عُقدة القيادة الداخلية، وتفكَّكت أوصالُ كتائب القسَّام المُسلَّحة، وإنْ حافظَتْ على هامشٍ من المناورة والمُناوشات المُتقطِّعة.
ورقةُ الأسرى فقدَت وَهجَها وقدرًا كبيرًا من فاعليَّتها، والنُخبة السياسيَّة الباقية بالخارج استوثقت تمامًا من خذلان محور المُمانَعة، وأنه نفضَ يدَه منها ومن القطاع، وعليها أن تتولَّى أمرَها بمَعزلٍ عن أيّة حساباتٍ إقليميَّة راهنة. وهذا مِمَّا يُحفِّزُ عُقلاءَها على قراءة ضرورات الواقع، وعلى التجاوب مع مُبادرة الالتئام التى تقودُها القاهرة.
وتبدأُ رحلةُ التفكيك والتركيب على وجهٍ جديدٍ، من استحداث لجنةٍ مُجتمَعِيَّة ذات هَيكلٍ تكنوقراطىٍّ غير مُتَحزِّب، لتضطلعَ بالأدوار الحيويَّة المطلوبة فى غزَّة على وَجه الاستعجال، من أوَّل الإشراف على ضَخّ المُساعدات وتوزيعها، إلى إعادة إرساء منظومة قادرة على إدارة يوميّات الناس ومعاشهم، وفَسح الطريق لترميم التفسُّخ الديمواغرافىِّ، والتجاوب مع أيَّة وَرشة مُستقبليَّة مُقترَحة للإعمار.
بلاغةُ النظر لفلسطين من حيث كَونها قضيَّةً عادلةً، لا تمنعُ التجاوبَ مع الاختناق الراهن بتَعَقُّلٍ وديناميكيَّة، بل تَفرضُه وتُضاعِفُ الحاجةَ إليه. صحيحٌ أنَّ الاحتلالَ أصلُ المشكلة وأساسَها ومنبعَها، لكنَّ «طوفان السنوار» لم يَكُن حلاًّ على الإطلاق، بل عَقَّد الأوضاعَ عَمَّا كانت عليه، وبدا كأنه يلعبُ بالجغرافيا فى الزمن الخطأ، أو العكس، فما استغلَّ أُصولَه الماديَّة والمعنويَّة بالاستثمار الواجب، إنما ضيَّع كثيرًا منها، وفوقَ هذا سقطَ فى فَوالقِ التوازُنات الحَرِجَة على امتداد الإقليم.
والحال، أنَّ محورَ المُمانَعة أضرَّ صقرَ حماس الراحل من حيث أراد أن يُؤازِرَه، وتَضرَّر منه أيضًا بآثار وارتدادات «حرب الإسناد والمُشاغَلة» التى أعلنَها حسن نصر الله، واحترقَ بنارِها فردًا وتيَّارًا. وبعدما نزلَ الحزبُ عن الشجرة لصالح اتِّفاقٍ لم يَكُن يقبلُ بما هو أفضلُ منه كثيرًا لعَقدين سابقين، يُمكنُ القَول إنَّ «صفقة لبنان» الهشَّة قد تفيدُ القطاعَ بأكثر مِمَّا أفادَه رصاصُها الطائش، على الأقلِّ لناحية إنزال الحركة من سماء الوَهْم إلى أرض الواقع وأوحَاله.
قد يُفهَم سِرُّ التشدُّد الحماسىِّ، من مُنطلَق الحساسية المُفرِطَة إزاء كلِّ ما يُمكن أن يُفسَّر على معنى المُطاوَعة والتفريط للاحتلال، إنما يظلُّ غريبًا أن تتصلَّب بشأن البحث عن صيغةٍ وطنيَّة لتجديد إدارة القطاع، والتراجُع خطوةَ إلى الوراء، لتتخفَّى فى شرعيَّة مُنظَّمة التحرير ومركزها القانونىِّ أمام العدوِّ والعالم.
وإذا كان نتنياهو لم يُوفِّر فُرصةً للتصويب على رام الله، فإنَّ كلَّ مُناكفةٍ من جانب الحركة تصبُّ فى صالح الأجندة الليكودية اليمينية المُتطرّفة، وتخصِمُ من القضية على المدى البعيد، لا فى النطاق الراهن فحسب.. والاستجابةُ الإنسانيَّةُ على صُورتِها السليمة، تبدأ وتنتهى عند إسرائيل وسياساتها المُتعنِّتة، لكنها تمُرُّ فى منتصف الطريق بمسؤوليات الفصائل عن بناء سرديَّةٍ قابلةٍ للتطبيق، وقادرةٍ على التصدِّى لسرديَّة نتنياهو، فيما يتَّصلُ بدعايات غياب الشريك وانعدام فُرَص تخليق الحلول من الداخل.
المسؤولية عَمَّا فاتَ تتوزَّعُ بالتساوى على مُكوِّنات المشهد الوطنىِّ، لكنَّ خطوتَها الافتتاحيَّة يتعيَّنُ أن تبدأ من جهة حماس. كان «الطوفان» قرارًا فرديًّا، أو على أفضل الافتراضات أُدِيْرَ بالتنسيق مع قوىً خارجيَّةٍ غير وطنية. وهو لا ينفصلُ فى معناه ومآلاته عن خطوة الانقلاب على السلطة والانفراد بالقطاع قبل عقدين، وتذويب مُحاولات الوئام كلِّها، من مصر إلى الجزائر وروسيا والصين.
وإذا كانت المُبادرةُ لصفقةٍ لا تُلبِّى تطلُّعات الحماسيِّين مسألةً شِبهَ مُستحيلة، فالأقربُ للمنطق أن تُبادِرَ للتنازُل لصالح الضفَّة الغربية، فيما يُشبِهُ الاعتذارَ عن شَقِّ الصف ودَفع القطاع إلى مُقامرةٍ غير محسوبة، بجانب إتمام القطيعة الكاملة مع الشيعيَّة المُسلَّحة، بعدما قدَّمَتْ مصالحَها على الوعود والتطمينات تحت شعار التضامن ووحدة الساحات.
والخطوةُ السابقة لن تُغيِّرَ شيئًا من واقع التوازُنات السياسيَّة، كما لن تُؤثِّر على أفضليَّة الوضع بالنسبة للاحتلال، ولن تَقلِبَ هزيمةَ المُمانَعة نَصرًا بالطبع، لكنها ستُتَرجِمُ قدرًا من التواضُع أمامَ القضية، وستعكسُ حالَ القبول والاقتناع بإلزاميَّة توطين النضال التحرُّرىِّ، وعَزله عن المُؤثِّرات العابرة للحدود، بحيث لا تعودُ فلسطين أداةً فى نزاع الأُصوليَّات على امتداد الإقليم، ولا تفقدُ حرارتَها الإجماعيَّةَ المطلوبة، كما لا تتأثَّرُ إذا ما تعثَّرتْ صفقاتُ الخارج، وعادت مظاريفُ النار لتتدفَّقَ بين تل أبيب والضاحية وطهران.
لا يتحدَّثُ المُؤتمرُ عن استجابةٍ غائبة، إنما عن قَدرٍ أقلّ من المطلوب، وفى حاجةٍ مَاسّة إلى التعزيز.. والمسألةُ هُنا لا تنحَصِرُ فى تدبير المُساعدات، وهى مُكدَّسَة بآلاف الأطنان فى سيناء على أيَّةِ حال، إنما تدورُ الفكرةُ بالأساس على مستوى تأمين الإمدادات بمعنىً أوسع من الضخّ تحت القَصف، بحيث تتوافرُ سُبلُ الحياة فى النِّطَاقَين البيولوجىِّ والاجتماعى، ولا يكونُ إطعامُ الناسِ أقربَ لتَسمِينِهم حتى موعد الذبح.
تتوخَّى القاهرةُ من خُطوتها الأخيرة أن تُقدِّمَ ملفَّ الإغاثة إلى واجهة المشهد، جنبًا إلى جنبٍ مع نشاطها المُتصاعِد على محور تجديد المُفاوضات، وفى سياق البحث عن هُدنةٍ فصائليَّة تستبقُ الهُدنةَ مع الاحتلال أو تُواكبها، وتُعيدُ بناءَ الوِفاق، وتخليق السلطة الإدارية الجديدة للقطاع.
وبهذا، تكتملُ الرؤية على مُرتكزاتِها الثلاثة: إعاشة الناس فى الشِّقِّ الحيوىِّ العاجل، وتطمينهم على المستقبل، وتثبيت ركائزَ صالحةٍ لقَطع الطريق على أيَّة أجنداتٍ مُضادّة للقضية ومصالحها العُليا، أو تُهدِّدُ باستدامة النزاع تحت سقفِه الراديكالىِّ القائم.
والمُرادُ هُنا، أنْ يُوظَّفَ ثِقَلُ القانون والضمير العالمِيَّيَن، لترويض الرغبة الإسرائيلية فى تفعيل برنامجٍ بات مُعلَنًا لقَضم القطاع، أكان عبر «خطَّة الجنرالات» لتقسيمه وعزل نطاقاتِه عن بعضها، أم بتنشيط ورشة الاستيطان مُجدَّدًا، وإعادة الأمور لِمَا كانت عليه قبل «فكّ الارتباط» فى زمن شارون.
ويتوجَّبُ أَّلا يتأخَّرَ مَسارٌ عن الآخر، لذا تُكثِّفُ القاهرةُ تحرُّكاتها لتحفيز صفقة التهدئة، بالتزامُن مع رعاية حوارٍ مُتّصلٍ بين الفصائل، وفى مُقدَّمها فتح وحماس، واستضافة المُؤتمر الوزارى الدولىِّ، لتكتمل عناصر الرؤية المصرية بشأن تثبيت خطوط الهُدنة المُقترَحة مع النفس والآخر.
وخلال الأيام الماضية، تتواترُ أحاديث من جِهَة الولايات المُتَّحدة عن العودة إلى مُداولاتِ وَقف إطلاق النار وتبادُل الأَسْرى، وقد بدا أنَّ «بايدن» تحمَّسَ بأثر إنجازه على الجبهة اللبنانية، ويتطلَّعُ لتكرار التجربة فى غزّة، مَدعومًا بإشاراتٍ إيجابيَّةٍ مِنْ خَلَفِه المُنتظَر دونالد ترامب، ومُلتَمِسًا فاعليّة رسالة الأخير إلى نتنياهو بضرورة إنهاء القتال، وحَسْم الملفَّات العالقة قبل موعد وصوله للبيت الأبيض فى يناير، ما يعنى أنَّ الحربَ الدائرةَ على ركام القطاع تُوشِكُ أن تنطفئ، وعلى أسوأ الظروف لا تتبقَّى فيها سوى أسابيع لا تتجاوزُ أصابع اليَدَيْن.
ما يمنعُ قيادةَ «حماس» الحالية عن إبداء رغبةٍ حَسِنَة بشأن الهبوط الناعم، أنهم مُكَبَّلون بميراث «السنوار» وخياراته الزاعقة، ولم يَتَحلَّلوا أمامَ أنفسهم على الأقلِّ من الالتزامات السابقة تجاه الشيعيَّة المُسلَّحة، وما جرى على صعيد «حزب الله» يُفتَرَض أنْ يُغيِّر تصوّرات الحركة عن الجولة كُلّها، وعَمَّا يُمكن الرهان عليه فيها أو التطلَّع لإحرازه من خلالها.
وتلك الديناميكيَّةُ ستقودُها بالضرورة إلى إعادة إنتاج نفسِها على وجهٍ آخر، ليس فيما يتَّصل بانتماءاتها ومنظومة علاقاتها الخارجية فحسب، إنما بحدود تمَوضُعِها داخل المشهد الوطنى، والوعى بأنها كبَّدت الناسَ فاتورةً قاسيةً، وستخرُج منها بديونٍ ماديَّةٍ ونفسيَّة مُرهِقَة وطويلة السداد. والقَصدُ، أنَّ أزمتَها الأكبرَ ليست مع الاحتلال، ولا حتى فى وراثة مُنظَّمة التحرير والسُّلطة لعَرشِها المُتهدّم فى غزَّة، بل مع الغزيِّين أنفسِهم، وربما عموم الفلسطينيين، بأثر انتقال مشاعر الغضب وانعدام الثقة فى أوصال البيئة الحاضنة.
لا يُمكنُ الذهابُ إلى المستقبل ببطونٍ خاوية، كما لا يُمكنُ إشباعُ الناس طالما بَقِيَت السماءُ تُمطرُهم بالنار، أو يختصمُ قادتُهم وفقَ حساباتٍ تتصادمُ مع مصالحهم ومعاشهم. مُؤتمرُ القاهرة يُحاولُ المُوازَنَة بين الأَمْريَن، فيعملُ على دَفع الاستجابة الإنسانيَّة وتحصينها من نزوات العدوِّ، ويجتهد لتعبيد المسالك عبورًا إلى أوَّل طريق التعافى، وإلى حمايته من مُغامرات الأصدقاء وأصدقائهم.
لم تنقطِعْ جهودُ مصر على المستوياتِ كافةً. الهُدنة والإغاثة والمُصالحة، وكانت الوحيدة التى لم تَكَلَّ فيها جميعًا، ولا توقَّفت عن إيلائها الاهتمام بالتساوى. وهكذا ظلَّت تتلاقى مع الجميع: الوسطاء، والمُنحازين للطرفين، ودول الاعتدال، وعامّة الناس أوَّلا وأخيرًا.
كانت أسبقَ لإعادة «حَلِّ الدولتين» إلى الواجهة منذ قمَّة القاهرة للسلام، قبل أن يتشكَّل تحالفٌ دولىٌّ تحت العنوان نفسِه، وكانت الأسبقَ فى مُواجهة الانقسام منذ لحظته الأُولى، وقبل أن يدخل الروس والصينيون وغيرُهم على الخطِّ، وسبَقَت أيضًا فى رفض التهجير وتصفية القضية واقتراحات السيطرة العسكرية من الاحتلال، أو التلطَّى وراء إدارة دوليَّة خارج الوِفاق الفلسطينى.
وبعدما كشفتْ الوقائعُ عن خفايا الصدور، وأبانت الصادقَ من المحتال، تأكَّد بما لا يحتملُ الشكَّ أنَّ الفصائل خدَعَت نفسَها بتديين القضية، وخُدِعَت لتنزلِقَ إلى تَطيِيفها، ثمَّ خذَلَها الطائفيّون وأوردوها مواردَ التهلكة. والمُعضلة صارت أخلاقيّةً بأكثر مِمَّا هى تكتيكيَّة أو استراتيجية. وبقدرِ ما يتوجّه المؤتمر بأعلى صوتٍ لمُناداة العالم والصراخ الحقوق الضائعة، وعلى الالتزامات الإنسانيَّة التى يتوجَّب ألَّا تكون عُرضةً للمُساومة والابتزاز، يتعيَّنُ أنْ ينظُرَ الفلسطينيون من الزاوية الصحيحة، وأن يَرَوا واقعَهم على حقيقته الكاملة، ويستجيبوا للرُّؤى الأمينة على البشر والحجر. وعليهم أن يكونوا طرفًا مسؤولاً فى مهمّة إنقاذ غزة، وضمن ورشة وَصُل المُنقطِع فى فلسطين، ومُصالحتها على نفسها والعالم.