لا تزال المجتمعات ترزح تحت وطأة الجرائم التي تمزق براءة الأطفال وتحطم نفوسهم الغضة، كريحٍ عاتية تهب على زهرة ندية فتذروها رمادًا في مهب العاصفة. ومن بين هذه الحوادث التي تزلزل الضمير الإنساني، حادثة الاعتداء على الطفلة ذات الثماني سنوات في رحاب مسجد بمحافظة الشرقية، حيث كان من المفترض أن يكون المكان ملاذًا آمنًا، لكنه تحول، بفعل وحشية البشر، إلى مسرح لجريمة تُدمي القلوب.
ما أفظع أن يتعرض طفل لمثل هذه الفاجعة، وما أشد قسوة أن يكون الجاني بشرًا، مَن يُفترض أنهم حُماة الطفولة، فإذا بهم جلادوها. هذه الطفلة، التي كانت تحمل في قلبها الصغير نقاء العالم كله، باتت اليوم تحمل ندبة أبدية في أعماق روحها. إن الألم النفسي الذي تعانيه الآن قد يمتد كظل ثقيل فوق سنوات عمرها القادمة، يطاردها في صمت الليل وفي ضجيج النهار، في نظرات الآخرين، وفي مرآتها الخاصة.
الخوف، العزلة، فقدان الثقة بالناس، كل ذلك قد يترسخ في وجدانها ما لم تُمد لها يد العون. وهنا، لا تكفي المواساة، بل ينبغي أن يكون هناك احتضانٌ حقيقي من مختصين يعرفون كيف يعيدون بناء الجسور المنهارة في داخلها، كيف يرممون شظايا روحها قبل أن تتناثر إلى الأبد.
أين المجلس القومي للأمومة والطفولة؟ أين المؤسسات التي شُيدت لتكون الحصن الحامي لهؤلاء الصغار؟ ما نفع البيانات الصحفية إذا لم يصحبها فعلٌ صارمٌ يضرب بيد من حديد على يد المجرم؟ لماذا لا نرى استجابة فورية، تحركات ملموسة تعيد لهذه الطفلة إحساسها بالأمان؟ إن غياب هذه الجهات عن أداء دورها الفعلي يجعل الجريمة تتكرر، ويجعل الجناة أكثر جرأة، والضحايا أكثر ضعفًا.
إنَّ الدور الحقيقي لهذه المؤسسات لا يقتصر على إصدار التصريحات، بل يجب أن يمتد ليشمل: توفير دعم نفسي واجتماعي حقيقي، لا صوري، للطفلة ولأسرتها، إضافة إلي السعي لضمان إنزال أشد العقوبات بالمجرم، حتى يكون عبرةً لكل من تسوّل له نفسه العبث ببراءة الأطفال، وايضاً إطلاق حملات توعوية لاجتثاث ثقافة الصمت والتستر عن مثل هذه الجرائم.
لكن المصيبة لا تقف عند حدود الاعتداء ذاته، فالمجتمع، في قسوته غير المبررة، يعاقب الضحية بدلًا من أن يحتضنها. إن وصمة العار التي قد تُلصق بهذه الطفلة ليست سوى جريمة أخرى، لا تقل بشاعة عن الأولى. كم من ضحية دفعتها نظرات الناس الجارحة إلى عزلة قاتلة؟ كم من طفلة بريئة نُبذت وكأنها هي المذنبة؟ إن المجتمع الذي يتخلى عن ضحاياه، بدعوى الأعراف والتقاليد، ليس سوى مجتمع يبارك الجريمة بصمته.
وفي قلب هذه المأساة، هناك أم، ليست مجرد شاهدة على معاناة ابنتها، بل غارقة في بحر من الألم والعجز. كيف لها أن تواسي طفلتها، وهي ذاتها تحتاج إلى من يربت على قلبها المثقل بالحزن؟ كيف تواجه مجتمعًا قد ينظر إليها وكأنها مسؤولة عن الجريمة، بينما هي التي احتضنت ابنتها في لحظة الانكسار؟ إن تقديم الدعم لهذه الأم لا يقل أهمية عن إنقاذ طفلتها، فالأم التي تنكسر، تفقد قدرتها على حماية من تبقى لها من الحياة.
الدعم النفسي، المساندة الاقتصادية، توفير سبل العيش الكريم، كلها أمور يجب أن تُقدَّم لهذه الأسرة، لا كمنة، بل كحق. فلا يُعقل أن يُترك الضحايا يواجهون مصائرهم وحدهم، بينما الجناة، حتى بعد إدانتهم، قد يجدون من يدافع عنهم أو يبرر جرائمهم.
ويبقي السؤال الأهم هو كيف نحصّن أطفالنا من هذا الجحيم؟
في رأي الشخصي هناك عدة نقاط يجب العمل عليهم وكلهم علي القدر ذاته من الأهمية وهي أولاً: تشديد العقوبات على الجرائم ضد الأطفال، بحيث لا يكون هناك مجالٌ للتهاون أو الرأفة، ثانياً: إلزام دور العبادة والمدارس بتركيب كاميرات مراقبة، لحماية الأطفال من أي استغلال أو اعتداء، ثالثاً: إطلاق برامج توعية للأطفال، تعلّمهم كيف يحافظون على أنفسهم، وماذا يفعلون إذا شعروا بالخطر، ثالثاً: تعزيز ثقافة الإبلاغ عن الجرائم، بحيث لا يكون الصمت هو الاستجابة الأولى لمثل هذه المآسي، رابعاً: إلغاء أي شكل من أشكال الوصم الاجتماعي للضحايا، وتجريم التنمر ضدهم.
هذه الطفلة ليست مجرد قصة تروى، أو عنوان في صحيفة، بل هي إنسانٌ له روح، له مستقبل يجب أن نحميه. وإذا سمحنا للظلم أن يطوي صفحتها بلا إنصاف، فإننا لا نرتكب جريمة بحقها وحدها، بل نرتكبها بحق كل طفل قد يلقى المصير نفسه غدًا. العدالة ليست ترفًا، وليست خيارًا يمكن تأجيله، بل هي الواجب الأول لمجتمع يريد أن يبقى حيًا.
فلا تجعلوا الضحية تدفع الثمن مرتين، مرة حين تعرضت للجريمة، ومرة حين تخلى عنها الجميع.