لم أعرف كيف أواجه ( أحمد زكي) برأيي في سيناريو (حليم)، فقط أردته أن يعرف أن الأستاذ محفوظ عبد الرحمن قد اختار الاقتراب من شخصية عبدالحليم على طريقة مسلسل (أم كلثوم) الذي كان نجاحه الجماهيري طاغياً.. ورغم أن البناء الدرامي لمسلسل تليفزيوني لابد أن يختلف عن البناء الفيلمي، فلم تكن هذه مشكلة السيناريو الوحيدة ولكن التعامل مع (حليم) كان أقرب إلى العمل التسجيلي المختلط بقصص معروفة للجميع عن حياته ونشأته وبحكاية متخيلة عن حب فتاة مراهقة ومشاكل المهنة التقليدية.
اختار السيناريو أن يبتعد عن كل ما يشير إلى معاناة الرجل ومواقفة الدالة على دهاء مكنه من الاستمرار.. كما أن قصة الحب الوحيدة التي أشار إليها السيناريو كانت هي الأخرى وهمية، تحققت من مصادر مختلفة أنها لم تحدث أبدا كما حكاها الفيلم.. وتجاهل السيناريو خلافات حليم مع كل معاصريه و(حروبه) معهم بدأ من رشدي وقنديل وانتهاء بأم كلثوم شخصياً.
وعلاقاته بعبد الناصر والمشير عامر والملك الحسن الثاني وخاصة في موقف الانقلاب ضده في (الصخيرات) ناهيك عن قصة حبه (الوحيد) لسعاد حسني بما فيها من دراما وقسوة.. ولم يقترب من رحلة الموت في لندن ومن المشاهد المفجعة التي رواها مجدي العمروسي عن أواخر أيام حليم في لندن.. بإختصار كان الفيلم (محايداً) تماما يتفادي كل ما يمكن أن يبعث (الحياة) في عمل درامي يتناول شخصية فذه.
وحتى لا أحبط أحمد قلت له أن السيناريو بحاجة إلى (شوية شغل) فلم يمانع وتفهم الموقف تماما الأستاذ حسين القلا المسئول عن الإنتاج في شركة جود نيوز فكان أن حجز لي غرفة في أحد فنادق الفيوم (أظنه الأوبرج) وعزلت نفسي لمدة عشر أيام أنجزت فيهم حوالي 30 مشهداً رأيت أن وجودهم يغير في شكل السناريو ومحتواه كما أن البناء الدرامي لابد أن يسير بطريق التداعي وليس الحكى التقليدي (الخطًى) لتاريخ الشخصية.. فقد تصورت مثلاً أن البداية لابد أن تكون خيط الدماء الذي بدأ يسيل في غرفة حليم في لندن في غفلة من الأطباء والعبارة القرآنية التي اعتاد حليم كتابتها عند سريره في القاهرة كتميمة تبشرة بالعودة سالماً إلى الوطن (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى ميعاد)..
في هذه الأثناء وقع علينا خبر إصابة أحمد بسرطان الرئة كالصاعقة
ولا أذكر من الذي قرر إعلان الخبر المفجع الذي لم يكن مفيداً لأحمد كثيرا رغم محاولته التظاهر بالصمود واللامبالاة بالمرض.. ورغم نصائح الكثير (ومنهم محمد حسنين هيكل) لأحمد بضرورة الراحة التامة والإخلاص لمراحل العلاج المختلفة فلم يفعل زكاوه شيئاً من هذا..
كان الدكتور حسن البنا وهو صديق دراسة قريبا من أحمد في هذه الأوقات – قد طلب مقابلتي وأخبرني أن الأطباء المشرفين على علاج أحمد قرروا أن (العمل) هو أفضل ما يجب أن يفعله المريض لتحسين حالته النفسية وبالتالي قدرته على المقاومة.. ورغم أني – كشخص له علاقة بمهنة الطب – أحسست هذه النصيحة قد تعني النهاية وأن المرض له أن يفعل ما يحب حيث لا أمل في الشفاء إلا أنني كذبت ظنوني ربما لرغبتي في عدم تصديق أننا سوف نفارق هذا العبقري المشحون بالفن وحب الحياة.
كنت أجلس معه بغرفته بالفندق متابعاً رحلة علاجه وقد بدأ المرض يتوغل إلى بريق عينية المتقدتين.. كان تركيزه يقل إذا طالت جلستنا أكثر من ساعة رغم محاولات التماسك.. وكان قد بدأ يتشكك في قدرته على تجسيد شخصية حليم.. أراه ينهض فجأة ويتجه إلى مرآه الغرفة وهو يقول: عبدالحليم إيه؟ فين عبدالحليم؟! ورغم الألم الذي مزق أحشائي فقد كنت أطمئنه بأن: الحكاية روح يأبوحميد مش شكل!! وأذكر أني ذات مرة داهمتني فكرة فأقترحتها عليه: أحمد.. أنت ظروفك ونشأتك وحتى قريتك تتطابق مع ظروف عبدالحليم.. إيه رأيك نعمل فيم روائي/ تسجيليdocudrama عن أحمد زكي يصنع فيلما عن عبدالحليم حافظ يشمل تاريخا لتاريخك وتاريخ حليم في عمل واحد!! ورغم جرأة الفكرة وإغراءاتها فقد رفضها أحمد على الفور: بص ياعم مجدي الشنطة دي فيها مليون جنيه عربون وأنا ماسبتش حاجة للواد خالص.. (يقصد هيثم)ومحدش هايديني المبالغ دي على فيلم تسجيلي.. صدقني.. أخفى أحمد في هذه اللحظة وجهه عني حتى لا ألمح انفعاله الحاد والشجى والحزن الذي كان يجيد اخفاؤه.. حاولت أن أطيب خاطره.. وقلت أنه قادر على تجسيد أي شخصية وأن العبقري بداخله قادر على جعل محبيه ينسون (عمر) الشخصية وملامحها.. وحتى حيويتها.
هل كنت صادقا تماما وأنا أقول هذا لصديقي؟! لا أظن!!