التاريخ ماكر، منصف، يعطى كل ذى حق حقه، مهما حاول البعض تغيير الحقائق وتشويهها، بالتضليل والمزايدات الرديئة. وما أروع التاريخ عندما يمارس مكره، وينصف الشرفاء فى وقت مبكر من مسيرتهم وهم على قيد الحياة، ويمارسون مهام عملهم، صافعا بقوة مفرطة وجوه هؤلاء الذين لا هم لهم سوى تدبير حملات التشكيك والمزايدات، والتسفيه والتسخيف من القرارات لا لشىء إلا لخصومة شخصية، أو محاولة إثبات أن وجهة نظرهم هى الأصح، دون النظر لمصلحة الوطن، وأمنه القومى.
وعندما كانت مصر تخوض حربا ضروس ضد منتخب العالم للإرهاب فى سيناء، فى سنة 2013 وقررت هدم مئات الأنفاق، مع غزة، خرجت جماعات وتنظيمات وحركات تدين وتشجب هدم الأنفاق، وأقاموا حفلات اللطم والندب، وسرادقات لتلقى العزاء، دون أن يضعوا فى حسبانهم أن مثل هذه الأنفاق كانت جرحا غائرا موجعا فى جسد الأمن القومى، واستباحة واضحة لكل من تسول له نفسه دخول البلاد متى يشاء، ودون الحاجة لموافقة الجهات المعنية لهذا الوطن، فى انتهاك صارخ للقوانين والأعراف، وشرف وكبرياء الوطن.
ورغم أن هذه الأنفاق وظفتها الجماعات الإرهابية فى الدفع بمئات المسلحين من كل حدب وصوب، وتسببت فى جرح الوطن الغائر، بكلفته الكبيرة بشريا، واقتصاديا، لكن يتبقى العامل الأهم والذى أثبتته الأيام، أن هدم الأنفاق كان قرارا له أبعاد متعددة تتعلق بالأمن القومى بمفهومه الشامل، وكأن النظام السياسى الحالى، مطلع على المستقبل، وعالم ببواطن الأمور لما سيحدث.
كانت حرب إسرائيل البربرية على غزة فى أكتوبر 2023 ورغم دمويتها وأنها تجاوزت كل حروب الإبادة المدونة فى سجلات التاريخ، إلا أنها أنصفت قرار هدم الأنفاق مع غزة، وأعلت من شأنه استراتيجيا، وصفعت بعنف وجوه المزايدين والمناضلين من منازلهم، وكل كتائب التشكيك؛ فتعالوا نتخيل أن الـ5 آلاف نفق، أو أكثر أو أقل، ما زالت قائمة فى ظل مخطط إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة الأمريكية، القائم على تهجير أهل القطاع قسريا، وتصفية القضية الفلسطينية للأبد، والاستحواذ عنوة على غزة، كانت إسرائيل ستدفع الغزاويين للهروب من خلالها إلى سيناء، خاصة فى بداية المعركة، عندما كان بعض الذين نصبوا أنفسهم نخبا وسياسيين بارعين، يطالبون بفتح المعابر لاستقبال الفلسطينيين وتسكينهم فى سيناء، اعتقادا منهم أنهم يقدمون لهم خدمة جليلة بإنقاذهم من الموت، ودون تفكير بديهى أن هذه المطالب تصب فى صالح إسرائيل، وتُنهى القضية للأبد.
النظام السياسى، أنصفه التاريخ، فى معظم - إن لم يكن كل - القرارات الحاسمة، وفى القلب منها القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية وما يدور فى فلك الأمن القومى، وكأنه مطلع على ما سيحدث مستقبلا، وقد أثبتت الأحداث أنه قارئ متميز للخرائط، ويتمتع بقدرة كبيرة على عدم التورط فى نزاعات وصراعات خارجية.. وتبنى نظرية الصبر الاستراتيجى، وعناصرها التريث الرشيد، والقدرة على ضبط النفس وعدم الانزلاق فى معارك جانبية داخليا وخارجيا، تشغله عن هدفه الجوهرى فى معركة البناء والتقدم والازدهار.
هدم الأنفاق مع غزة، قرار أثبتت الأيام نجاعته، وأهميته ووضعه فى خانة القرارات الاستراتيجية، التى أحبطت مخطط الكيان المحتل الرامى لتهجير أهل قطاع غزة قسريا، لسيناء، ولم يكن هناك أفضل وسيلة للتنفيذ السهل والسريع سوى التسلل عبر الأنفاق، ودخول سيناء ومن ثم الانتشار فى طول البلاد وعرضها، وكانت القضية الفلسطينية نسيا منسيا.
تأسيسا على ما سبق، يتبين يوما بعد يوم قدرات النظام السياسى المالك لأدواته، والمتمكن فى قراءة الخرائط الملتهبة والنجاة بسفينة الوطن من الغرق وسط أمواج بحور هادرة، ورياح عاتية تقتلع كل ما فى مسارها، ومن ثم فإن قرارات من عينة إعادة تأهيل وتسليح الجيش المصرى، وهدم الأنفاق والقضاء على الإرهاب، لا يتخذها إلى قائد متمكن، وواثق من قدراته، إذا ما وضعنا فى الاعتبار أنها جاءت فى وقت الحكومة تخوض فيه معركة البناء الكبرى جنبا إلى جنب.