عامان انقضيا وبدأ الثالث، والسودان فى دوّامة من الدم والنار. كان هشًّا مع البشير ونظامه الإخوانى، وصار أكثر هشاشة بأثر فوضى الانتقال، وصراعات القوى السياسية والتنفيذية، وارتباك المواقف من دون وضوح الرؤية. وما يزال يسدد فواتير عقوده السوداء، ويناضل للخروج من تداعيات الشجار بين زمنين متضادين؛ لكنه يقطع الطريق الصعبة زحفا على البطن، بينما يقطعه عليه آخرون من تيّارات شتّى، يختلفون فى الأفكار والأهداف، ويتفقون على إنكار الحقائق، وتزييف الوقائع، وعلى إبقاء الضباب حائلا بين الوسائل والغايات.
أحرز الجيش نجاحات ملموسة خلال الشهور الأخيرة، ويتقدم على ميليشيا الدعم السريع فى كل الجبهات. والأخيرة بعدما انحسرت مناطق نفوذها المتمددة فى زمن الثورة وما بعدها، لم تجد سبيلا إلا العودة لمعقلها الأساسى، والتترس بمراكزها الحصينة نسبيا فى دارفور. تُضيف خطايا جديدة إلى سجل مُتخم بالجرائم، تقادمت بعض حوادثه بمرور الوقت؛ لكن طابعها الجنائى لا يمكن أن يسقط بالتقادم. وربما يكون فصلها الجديد فى الإقليم مدخلا لاستذكار الفصول القديمة، وإعادة استحضارها على معنى الثبت والحصر والتوثيق؛ كمقدمة ضرورية لتجميع صحيفة سوابقها، والاستعداد لمُساءلة أخلاقية وقانونية بصورة جذرية شاملة.
لا يُلام الشعب فى غضبته على النظام السابق الساقط؛ إنما اللوم على من قادوا مواكب الغضب وأداروا فوائضه، وذهبوا إلى تحالفات أثقلتها الأيديوجيا والحسابات الخاصة، وقوّضها التنازع على النهاية الدرامية قبل أن تتحدد ملامح السيناريو بوفاق كامل. وعلى قدر الدور المهم الذى لعبته قوى الحرية والتغيير فى بادئ الأمر؛ فربما يقع على عاتقها جانب كبير مما آلت إليه الأحوال لاحقا.
والجميع من دون استثناء كانوا يعرفون محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتى، ويعرفون عصابته العائلية وماضيها القذر. وقد سبق للرجل أن لعب دورا وضيعا لصالح البشير، وفرضه الأخير فى منتهى سنواته على الهياكل المؤسسية، ومنحه وضعا سياديا أعاق الجيش عن تقويضه بعد الثورة، واضطره إلى المواءمة معه طالما أن الشارع لا يأخذ موقفا صريحا من الميليشيا. وتلك كانت خطيئة الساسة والمهنيين الأكبر؛ لأنهم وضعوا المكون العسكرى منذ البداية فى سلة واحدة، ولم يفصلوا بين القوة النظامية المنضبطة بالدستور والقانون والأعراف، وجناح وُلِد خارج كل الأطر والقواعد، وتضخم خارجها، وصار شوكة فى خاصرة العسكريين والمدنيين على السواء.
والصراع الذى أُريد تصويره على صيغة ثنائية، كان فى الواقع ثلاثيا على الأقل: الجيش، والميليشيا، والقوى السياسية، وهذا لو اعتبرنا الأخيرة جسما واحدا أصلا، وليست خليطا من المستقلين والمؤدلجين، يتوزع فيه المنحازون فكريا وتنظيميا على تلاوين عدة، لا يخلو بعضها من رجعية لا تختلف عن نظام الإخوان، ويتصل البعض بحلفاء ولاعبين من الخارج، ويُؤاخى فريق منهما بين السياسة والسلاح مؤاخاة سامة، فى بلد تعددت ميليشياته بتعدد الأقاليم والأعراق، وصار الانفلات فيه قانونا يُغيّب كل القوانين والتسويات العاقلة.
ولسنا فى حاجة اليوم إلى الاستطراد فيما كان من أخطاء لدى كل الأطياف. فالحال أن ميليشيا الدعم السريع صارت شريكا للجيش من موقع قوة، لا مجرد ندية رغم استحالتها منطقيا، وواكبته حاضنة شعبية بالقصد أو الاعتباط، وبدا أن الاستسهال سمح لفريق أن يتصور إمكانية توظيف الجناحين ضد بعضهما؛ لتحقيق غاية تقويض المؤسسات القديمة وصولا إلى سلطة ثورية خالصة لأصحابها حصرا، كما لو أن الدولة تُخترع من الصفر، أو أنها بلا ذاكرة، ويجوز معها البحث فى الهدم وإعادة البناء، لا فى الإصلاح والتقويم وتصويب المسار.
وإذ لا تكفى خواتيم الحكايات وحدها لإبراز ما فيها من عظات؛ فإن الارتداد إلى الماضى قد يفسّر بعضا مما ينغلق على الناس فى حاضرهم. كان الجيش مشغولا فى الصراع مع الجنوب بعد تفكك الدفاع الشعبى، واندلعت أزمة دارفور بالتزامن، فتفتق ذهن البشير عن الاستجابة لحرب العصابات الطارئة بمنطقها. تأسست ميليشيا الجنجاويد وأنجزت المهمة بالفعل، وورثها «حميدتى» لاحقا بعد صراعات بينية، وعلى ركام من الأشلاء وعروق الذهب. صار القتل رديفا للمنفعة، والازدهار مرهونا بضعف المنافسين. لا يمكن أن تكتمل القصة فى وجود جيش موحد، ناهيك عن أن يكون قويا وقادرا، وبينما يتباطأ الانتقال السياسى مع مؤسسة نظامية محافظة، فإنه يصير مستحيلا بالكلية مع عصابة سائلة تحت حُكم الفرد، وفى معمعة استقطابات إقليمية ودولية تتضخم عوائدها، وترتبط استدامتها شرطيا بتسييل الدولة وإبقائها خارج الضبط والانتظام، والبشر مع الحالات الشبيهة يبقون دوما فى أدنى سلّم الاهتمامات.
ربط العصابىّ المتمرس حمدان دقلو نفسه بشبكة مصالح واسعة، من الجوار المباشر إلى بلاد دونها بحار وزوابع، وأخرى لا تعرف لغة السودانيين ولا تحفل بمواجعهم. ومن حيث أنه منتدب لأدوار محددة، ومخططة سلفا بما لا يحتمل إلا الرضوخ والإذعان؛ فقد استُثمر بكثافة فى تمكينه وتقوية شوكته. والغطاء الذى أعانه على الانتفاخ تحت سمع الجميع وأبصارهم، أنه كان جزءا من دولاب الدولة، ومكونا عسكريا شرعنته إجراءات عمر البشير، وأقرها الشارع لاحقا بصمتٍ وانعدام خيال؛ رغم أنهم ثاروا على صانع المواءمات المشبوهة، ونقضوا غزله فى كل شىء تقريبا؛ إلا أن يحذروا البندقية السوداء التى دسّها بين بنادق البلد وسلاحه المشروع.
كان رجل المافيا يكبر يوما بعد آخر، ويراكم الخطايا دون خوف أو ملل، بينما يُصوّب ذوو الرؤوس الحامية على الجيش فى كيانه المعروف. أُجبرت المؤسسة على أن تحتضن كرة النار، وأن تسير على حبل مشدود بين الطرفين، لا رغبة لديها فى الصدام مع الشارع، ولا سبيل لاصطياد تماسيح المستنقعات، والأخيرة لا تتوقف عن تعكير المياه بين الجنرال والثائر. وعلى هذا يمكن أن نفهم كثيرا من حوادث التأجيج المفتعلة، وفى مقدمتها واقعة اعتصام القيادة العامة، وقد أرعبت الجمهور ولطّخت الجنود، وخرج منها المافيوزو دوقلو فائزا.
وإزاء ذلك؛ لا تنحصر الغرابة فى الكيفية التى دُعمت بها الميليشيا منذ ربيع 2019 حتى خريف 2021؛ بل فى التحالف الضمنى التالى على إقالة حكومة عبد الله حمدوك، والصريح لدرجة الفجاجة بعد افتعال الحرب فى أبريل من العام قبل الماضى. وربما صوّر الوهم لطبقة الساسة، هواة كانوا أم محترفين، أن العقبة الكبرى أمامهم تتلخص فى نظامية الجيش وكتلته الصلبة، وأن الصراع مع عصابة الدعم السريع قد يكون أسهل، وعليه فلا غضاضة فى التحالف المؤقت بغرض إطاحة الأول، على مطمع مكتوم لدى الطرفين فى أن يبتلع أحدهما الآخر، وأن يصفو له وجه الدولة من دون كل المنافسين والمنغصات.
وخفة الطرح ليست فى التغاضى عن ماضى حميدتى وعصابته فحسب؛ إنما فى محاولة خلط الزيت بالماء. الميليشيا فكرة من خارج أفق الدولة أصلا، والساسة يُفترض فيهم السعى إلى تطويع المجال العام وفق قواعد نظامية منضبطة. صحيح أن المسار تعثر فى سنوات ما قبل الحرب؛ لكن العثرة كانت مسؤولية جماعية، وكان الأولى أن يُنظر فى مسبباتها، وأن يُستوثق من المسؤولين عنها قبل الارتماء فى أحضان المتهم الأول. والجيش على الرغم من أية ملاحظات، لديه النواة الصلبة للكيانية والمشروع الوطنى، ومشتركاته مع القوى السياسية، أكبر وأعمق مما يجمعها بالدعم السريع، أو أى تصوّر بدائى شبيه.
ومع وافر التقدير للسيد حمدوك؛ فلم يكن خيارا صائبا منذ البداية. بدا الرجل وافدا على المشهد برؤية سياحية لا تعرف الواقع على حقيقته، وربما كان قريبا لبعض القوى الإقليمية والدولية أكثر من قربه للسودانيين. تخطّى كثيرا من ثوابت الدولة العليا وصراعاتها الخارجية لصالح إعلاء الصراع الداخلى، واشتُمّ من بعض مواقفه إخلاصا لمقر عمله السابق، بأكثر مما يخلص لموقعه فى قلب الخرطوم. كان ظله باهتا، وقد لازمه الانطفاء والضياع بعد الخروج من الحكومة، وفى تأسيس تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية «تقدّم»، وما لعبته من أدوار منظورة أو خفية لصالح الدعم السريع، وصولا إلى انقسامها على نفسها بين: تحالف صمود الملتزم بسابق الخطاب المراوغ، ومجموعة «تأسيس» المنخرطة فى رباط وثيق مع الميليشيا، كان مقررا أن يشرخ الجغرافيا والديموغرافيا طولا وعرضا باختراعه حكومة موازية، تحت ظل الجنرال الزائف حميدتى، الذى يُشاع عنه أنه لا يقرأ ولا يكتب.
بُنِيت سردية الحرب الجارية على عجل، وبقدر وفير من الاستخفاف والتلفيق، وتلقفها المدنيون ذائعو الصيت لمصالح وحسابات تنحاز لنظرية ضرب الظالمين بالظالمين، بدلا من فرزهم وانتقاء الأصلح فيهم والعمل معه على تفكيك الأزمة من داخلها. انطلقت الرصاصة الأولى صبيحة السبت 15 أبريل، وأشاع دقلو ورجاله أن الجيش بادر بالهجوم، بينما تُثبت الوقائع التالية خلاف ذلك، بالمنطق والبديهة. إذ كانت ميليشيا الدعم السريع على أهبة الاستعداد، وتحركت فى كل المحاور حتى فرضت سيطرتها على أنحاء العاصمة ومؤسساتها، بل إنها حاصرت الفريق البرهان فى مقر القيادة، بينما لو كانت لدى الأخير أية خطة للصدام لاتخذت المعركة صورة مغايرة، أو على الأقل ما كانت السيطرة على مثلث العاصمة وقعت بتلك السهولة، وكأنها نزهة فى سهل مُعقّم.
جلاء الناس عن منازلهم، وشكاواهم التى لم تنقطع طوال عامين، ثم الابتهاج العارم بكل انتصار يحققه الجيش، وأخيرا قوافل العائدين اليوم من نازحى الداخل والخارج، كلها تحمل إشارات صريحة إلى الطرف الباغى، والأقل صدقية واعتناء بالبلد والناس، كما تؤشر على طبيعة الموقف الشعبى وانحيازاته الصريحة، رغم ما يختلط على طليعته السياسية حتى اللحظة، ويُنبئ عن شرخ عميق بين المجتمع ومن يدّعون الحديث باسمه. وفوق كل هذا؛ تمتلئ صحيفة جرائم الدعم السريع بما لا يحتمل الإنكار، ولا يصح معه التبرير وتقاذف الاتهامات. وإذا كانت المسؤولية الجنائية تنصرف للمرتزقة والمنتفعين مباشرة؛ فإن جناية الدائرة المدنية المواكبة لهم أكثر جرما ووقاحة، وتُشبه شهادة الزور لمُجرّد الغرام بالكذب؛ وليس لافتراض أنهم يرون فى موقفهم منفعة للوطن والمواطنين.
انحسر الضوء نسبيًّا عن المأساة. كانت الحرب الأوكرانية تشغل حيّزًا كبيرا من قبل، وغطّت نكبة غزّة بعدها على الجزء المتبقّى من الاهتمام. والخفوت إنما سمح للميليشيا أن تواصل إجرامها المفتوح، ولرُعاتها الخارجيين أن يُفرطوا فى صبّ الزيت على النار، وفى إبقاء الأمور مُعلّقة، فضلا على فتح مسارب جانبية لبعض العواصم المُجاورة أن تمدّ أصابعها، وأن تلعب بين العصابات وطبقة السياسة؛ إذ لا سبيل لتعديل التوازنات من جهة الجيش.
تآكلت خريطة الدعم السريع منذ أواخر العام السالف، وارتد إلى نقاط ارتكازه فى إقليم دارفور. والصراع اليوم حول الولاية الشمالية وعاصمتها فى الفاشر، والجرائم لا تنقطع عن المدينة ومخيمات اللاجئين فيها مثل زمزم وأبو شوك. حُرقت عشرات القرى، ويُقتل العشرات بوتيرة يومية، وتُدمر المؤسسات والمرافق الخدمية بمنهجية واضحة؛ لإخراج الجيش من آخر معاقله على الجبهة الغربية، واستكمال السيطرة على مساحة تُقارب رُبع الجغرافيا السودانية، وتتشارك حدودا مع ثلاث دول، ومن ورائها أطراف أخرى وثيقة الصلة بقائد الدعم السريع، وتؤمن له لوجستيات القتال وقنوات المصالح الاقتصادية.
خسرت العصابة رهانها على كامل السودان، من جهة إزاحة جيشه الوطنى، وتعبئة الدولة فى قمقم الميليشيا. لكن حميدتى يخوض مغامرة لا تقل خطورة فى دارفور، طامعا فى الغالب أن يتخذها قاعدة لنظامه الخاص، ونواة لتقسيم جديد لا يحتمله البلد الذى أتعبته الصراعات ويتهدده التداعى كأحجار الدومينو.
الصورة الواضحة لدى أغلبية السودانيين، يصر العالم على تسويقها بعناوين غامضة، والنظر للصراع على أنه خلاف بين مؤسستين، وليس تمردا من ميليشيا على دولة. يحصرون المسألة فى بُعدها الإنسانى، ويُقصرون حتى فى الاضطلاع بمهمة الإغاثة. واليوم تستضيف لندن اجتماعا بالشراكة مع فرنسا وألمانيا، بحضور وزراء الخارجية من 20 دولة؛ لكنهم ساووا بين الجيش والعصابة فى الاستبعاد من المشاركة، والأغرب أن يذهب وفد من مجموعة حمدوك لمواصلة لعبتهم المريبة فى الدوائر الخلفية.
لا مجال للمقارنة بين طرفى الصراع، والمشهد بسيط لا مركب كما يدّعى البعض. يتصدّر البرهان الصورة لأنه قائد الجيش، ويتصدّرها حميدتى من الجانب الآخر لأنه يقود عصابة عائلية، يُعاونه فيها شقيقه وأبناؤه، وترتبط وجودًا وعدمًا بالتركيبة القبائلية الحاكمة لنشوئها وبقائها حتى الآن. وحتى مع التذرّع باستحصال الطرفين على دعم من الخارج؛ فالفارق كبير بين إسناد وُجِّه إلى مؤسسة سودانية وطنية، تحت سقف الدولة ولأجل سلامتها العضوية، وما دُفِعَ من رشىً لشركة تعدين غير شرعيّة، تُوظّف سلاحها لحراسة مناجم الذهب، وتنوب عن آخرين على حساب السودان.
يتدفق السلاح على الميليشيا من خمس دولٍ فى القارة، وثلاثة أو يزيد خارجها. السودانيون يضجّون بممارساتها، والولايات المُتّحدة صنّفت جرائمها ضد المساليت فى غرب دارفور تحت صِفة الإبادة الجماعية، ويعرف العُقلاء أنها لا تصلح بديلاً عن الجيش، ولن تكون رافعةً للديمقراطية والانتقال السياسى؛ لأنها نشأت بالأساس لسدِّ ثغرة أخلاقية لم يتورّط فيها العسكريون النظاميون، وازدهرت فى أجواء الفوضى، وآخر ما تريده أن يعود السودان بلدًا طبيعيًّا، أو تنتظم مؤسساته وفق دستور وقانون وعملية سياسية تحت الضوء الكاشف.
الجيش لديه مشروع، أو قاعدة صالحة لإرساء مشروع؛ ولو لم يكن مثاليًّا أو يُطابق آمال الساسة والقوى المدنية. أما «الدعم السريع» فلا مشروع لديها، ولا تَعِد الموالين لها بعد الحرب إلا بما رأوه منها فى الميدان، وخبروه عنها قبل عقدين فى دارفور. ورغم اتّضاح الصورة؛ فلا يجب الارتكان للسبق وسلامة القصد، أو الاتكاء على قوّة الموقف الراهن وعدالته، وما يواكبه من قبول شعبى واسع.
على الفريق البرهان أن يُبادر باقتراح مسار سياسى، وترسيم ملامحه العريضة، وتأطيره زمنيًّا بما يسمح بإبراز حركته الحثيثة ومراقبتها، وإخضاعها للتقييم والتقويم بإرادة شعبية والتزام مؤسَّسى. كما يتعيّن الخلاص من رواسب نظام البشير، وتعقيم المجال العام من عطن الإخوان وبقاياهم، بجانب حسم مصير الميليشيا بتصوّر واضح، الآن وفى المستقبل، انطلاقًا من معاداة الفكرة وقادتها، وشقّ مسار بديل للراغبين فى الانفلات من قيودها، والعودة إلى الصف الوطنى، وبحيث تُصفَّى التركيبة بقدر الإمكان، وصولاً لحصر الدائرة الضيّقة حول «حميدتى» من العائلة والمنتفعين، ومجموعات المرتزقة الوافدين من الخارج.
ومن الواجب على مجلس السيادة الانتقالى وقائده أيضا، إفساح المجال للمصارحة والمصالحة على كل المستويات، بما يُطمئن المُخالفين لموضوعية الإدارة القائمة وتجرّدها، وإمكانية تصويب المسارات والانخراط فى تجربة البناء على أسس واضحة.. صمد الجيش رغم كثافة الضربات، وأثبت عزمًا لا يلين، وأعاد تعديل الصورة بدأب على مدار عامين كاملين؛ لكن القوّة وحدها لن تحسم الصراع ولو انكسرت الميليشيا تمامًا. يحتاج السودان لتجميعه بالحوار، وتحصينه بالوفاق، ويحتاج لإنكار الذات، وتقديم العام على الخاص.
المؤسسة العسكرية تُدافع عن بلدٍ مُهدَّد فى وجوده، وبإمكانها أن تهديه أغلى ما يحتاجه ويتطلع إليه، وأن تُنصّب نفسها بالممارسة العملية جوهرةً فى تاجه، وأسطورة تُحكَى لعقودٍ ولا ينطفئ ضوؤها. ما يزال الجنرال سوار الذهب حاضرا فى ذاكرة السودانيين. ربما تعجّل الأُمثولة قبل اكتمال نُضجها، أو دَرَّج من غير قصدٍ مُرتقَى الإخوان إلى السلطة؛ لكنه قدّم نموذجًا يصح استلهامه مع قدرٍ من الضبط والإحكام. ليس قدرًا على السودان أن يعبر كل مراحله زحفًا على البطن، ولا أن يُخيَّر بين ميليشيا الدين وميليشيا الذهب. أمَّا الساسة الذين يُصلّون وراء حميدتى فتكفيهم وضاعة الموقف، وانحطاط الإمام.