لم يكن المصير معروفًا بشكل مُسبَق منذ الإبحار من صقليّة قبل أسبوع؛ بل منذ خمسة عشر عامًا كاملة. خرجت السفينة الشراعية الصغيرة «مادلين» لكسر الحصار عن قطاع غزة، وفى خيال مُستقلِّيها سِتّ محاولات سابقة، كلها آلت إلى الإحباط أو الاختطاف، وأُولاها وقّعت عليها إسرائيل بالدم.
تُحترَمُ شجاعة النشطاء وإصرارهم قطعًا؛ لكنَّ دهشة الناظرين إليها من وراء البحار تبدو طفولية أو مُفرطة فى الرومانسية والسذاجة، لا سيّما حينما تنطوى على تبسيطٍ أو مغالطات، وحينما يُوظِّفها البعضُ للكيد أو المُزايدة السياسية، ولا يُوجِّه أصابع الاتهام على طولها للجانى الفعلى، أو يُقرِّر ألَّا يضع رسائله فى صندوق البريد الصحيح.
أراد مُنظّمو الرحلة أن تكون رمزيّةً لا أكثر. فيما يبدو أنهم استفادوا من خبراتهم السابقة؛ فسَعَوا قاصدين لعدم استفزاز الدولة الصهيونية بالمُبالغة فى الحشد والاستعراض.
ولا يُقلِّلُ من التجربة إطلاقًا أنها كانت صغيرة إلى الحدِّ الذى لا يُزعج الوحش الجاثم على صدر فلسطين، وقليلة الرهان لدرجة الاكتفاء ببعض العصائر والمُعلَّبات التى لا تكفى لإنهاء مأساة ما يزيد على مليونى مدنى فى غزة.
فالقصد أن يعرف العالمُ إمكانية تحرير جهود الإغاثة من اللوثة الحربية والاستقطابات السياسية، وأن يتعرّى الاحتلال مُجدّدًا أمام الجميع، ومن دون فرصة لاستجرار المزاعم والأكاذيب، والتعمية على وحشية الإبادة الجماعية بالنار والجوع.
وبينما يكشف الصهاينة عن وجههم القبيح علنًا فى المياه الدولية قبالة غزّة؛ دخل على الخط تُجَّارٌ ومستثمرو نكبات من تيَّارات الأُصوليَّة وداعميها، محاولين إشاعة تلفيقاتٍ غير حقيقية عن مسار السفينة أو موقع السطو عليها.
وأخذ آخرون يتحدَّثون عن مسيرةٍ برّية لكسر الحصار، مع معرفة ما وراء ذلك من اختراع أزمةٍ لا مُبرِّر لها، وادعاء بطولات وهمية من جهة المطالبة بالمستحيل؛ لأن المسألة فى جوهرها تتّصل بانفلات دولةٍ ترى نفسها فوق القانون، وبعَجزِ المنظومة الدولية كلِّها عن فرض قواعدها أو الدفاع عنها.
ولا يصحُّ فى سياقٍ كهذا أن يُصرَف الاهتمامُ عن الخصومة الأصلية إلى تفريعاتٍ ثانويّة لا معنى لها، ولا أن يُبَرَّأ القاتلُ بالتصويب على سواه، أو يُخلَى سبيلُ الضمير العالمى بالبحث عن بدائل تضطلع بما يتخلَّى عنه عمدًا وباستخفاف مشين.
والحال؛ أنَّ الفعاليات النظامية لم تعد فعَّالةً فى تقويض الجنون، أو حصار الشراهة الإسرائيلية المسنودة بانحياز أمريكى كاسح.
والدول محكومة بأعراف واعتبارات وقيود لا حصر لها، وليس من صالح فلسطين نفسها أن تتخذ المحنة صفة الصدام بين كيانات كبرى، لا من جهة العجز عن حسمها تحت هذا السقف فحسب؛ إنما لأن النفخ فى الصراع من تلك الزاوية يُولِّدُ مزيدًا من الذرائع، ويُعزِّز سردية العدو وغطاءه الخارجىَّ الكثيف.
وما فات؛ يجعل الرهان على المجتمع المدنى سبيلاً وحيدًا لتفكيك الصورة المركبة، واللعب فى توازناتها المُختلَّة من داخلها، بنعومة وتؤدة، على أمل أن تتضاءل وقاحة السلاح، كلما توسَّعت استفاقة الضمير.
محنة السفينة مادلين كانت معروفةً سلفًا؛ لا لشىء سوى أنها حلقةٌ فى سلسلة طويلة، آلت كلُّها إلى ذات المآل وإنْ على صورٍ وتفاصيل شتّى. وكانت أشدّها فداحةً فى زمن أبسط كثيرًا من الزمن الراهن، ومع تداعيات حربٍ أقل فى صخبها وتكلفتها، وضمن موجة انفعال عاطفية وأخلاقية أكثر جرأة وتفاؤلاً ممَّا عليه الآن.
والصهاينة الذين أنشبوا أظفارهم الفولاذية فى أبدان النشطاء قبل سنوات، كانوا وقتها وُحوشًا أقل رداءة وجنونًا ودمويّة بالقياس إلى الدرك الذى انحطّوا إليه اليوم، ولم تكن عيون الغرب المُتحضّر قد طبَّعَتْ مع الجرائم ضد الإنسانية بالصورة الفجة الحالية.
ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى قراءة وقائع الماضى؛ لا للخشية أو الارتداع والنكوص على الأعقاب، بل لاستيعاب الدروس وتثمير الحاضر، وضمان الاستفادة المُثلَى منه، أو على الأقل تحاشى التورُّط فى خطاياه القديمة، أو اللعب لصالح الظالم من حيث لا نعى أو نقصد.
والمشكلة الملحوظة فى فوران شبكات التواصل؛ أن كثيرين يتعاملون مع الواقعة الأخيرة كما لو أنها ابتداءُ حكاية لا خاتمة لأحد فصولها.
بالضبط كما تدّعى تل أبيب أن «طوفان السنوار» فاتحة الأزمة الراهنة، أو يزعم الحماسيون لأنفسهم ابتكار النضال مع تدشين الحركة، أو حصر محطاته اللامعة فى نزواتهم غير المحسوبة، ومن دون أى اعتبار لحسبة العوائد والتكاليف.
وسياق المغالطات وخلط الأوراق لا يصبُّ إلا فى صالح النازية الصهيونية للأسف؛ لأنه يُجرّد الوقائع من جذورها التاريخية، ويشترك برعونةٍ فى اصطناع مزيد من السرديات الزائفة.
كان وزير الأمن الإسرائيلى، يسرائيل كاتس، قد أفرط فى تهديداته طوال الأسبوع الماضى، واختتمها قبل ساعات من الجريمة بالقول إنه وجّه جنودَه لمنع وصول «مادلين» بما تحمله من نشطاء ومساعدات إلى سواحل غزة.
وباختصار؛ كان الجميع عارفين تمامًا بما ستنتهى إليه المحاولة، وراقبوها قلقًا على المُتطوِّعين أو عشمًا فى موقف دولى حاسم، أمَّا من خاضوها فكانوا يسعون لإضاءة الأنوار الكاشفة على واقعٍ مُظلم، أو يُرَاد إظلامه بالديماجوجية والاحتيال.
اعتُقل الطاقم وسُحِبَت السفينة إلى ميناء أشدود كما كان مُتوقَّعًا، ويُفتَرَض ألا تنتهى القصة عند تلك النقطة، ولا أن تُستكمَل بالجدل والدجل وثغاء القطعان المُكدَّسة فى حظائر الأُصوليّة ولجانها الإلكترونية.
رحلة مادلين واحدة من رحلات أسطول الحرية، المبادرة التى تأسَّست فى العام 2010 بدعوة من هيئة الإغاثة التركية، وانخرطت فيها سريعًا خمس مُنظَّمات غير حكومية أغلبها من أوروبا، زادت لاحقًا مع توسُّع التحالف إلى أربع عشرة مُنظَّمة تقريبًا.
الغرض كسر الحصار الخانق على غزَّة منذ انقلاب حماس على السلطة الوطنية 2007، وانفرادها بحكم القطاع مرورًا بحربه الأُولى فى العام التالى.
المحاولة الأولى انطلقت فى ربيع 2010، وكان مُقرَّرًا أن تضمَّ ثمانى سُفنٍ ونحو 1000 ناشط، قبل أن تنسحب اثنتان منها لأسباب فنية؛ لتنطلق الستُّ الباقية حاملةً 750 مُتطوِّعًا و6 آلاف طنٍّ من المساعدات، كانت أكبرها «مافى مرمرة» التركية.
وقد تعرضت لهجومٍ كاسح من وحدة كوماندوز البحرية الإسرائيلية «شايطيت 13»، أفضى لمقتل 9 على متنها مع إصابة العشرات، قضى واحد منهم بعد مُعاناةٍ امتدَّت لسنوات، وسُحِبَ الأسطولُ إلى ميناء أشدود أيضًا، مع فيضٍ من البذاءة والاستجوابات والتنكيل البدنى، قبل أن يُعاد الموقوفون إلى بلدانهم دون اعتذارٍ أو إقرار بالخطأ.
هاج العالم وماج، وشُنَّت حربٌ إعلامية وقانونية ساخنة على الاحتلال لفترةٍ. وبعيدًا من التفاصيل الدقيقة، فقد رُفِضَت كثير من الدعاوى أمام القضاء الأوروبى، وأغلقت أنقرة ملفَّ الادعاء فى الجريمة بعد تسوية ثنائية مع تل أبيب، كان من بنودها الاعتراف بوقوع أخطاء وصرف تعويضات لبعض الضحايا.
وفى السنة التالية دُعِىَ إلى نسخةٍ جديدة من الأسطول، واعترضت عليه دُوَلٌ عدّة منها تركيا، قبل أن تمنعها الموانئ اليونانية من الإبحار؛ لتصل سفينة واحدة اسمها «الكرامة»، وتُسحَب فى النهاية بالطريقة ذاتها.
وهكذا مضت 4 محاولات تالية، فى الأعوام 2015 و2016 و2018 و2024، مع فروقٍ بسيطة بين التعطيل أو الأسر.
والأخيرة كانت نموذجًا للضغوط السياسية وتوافقات الكواليس، إذ تعطّلت عدَّة مرّاتٍ لأسباب غامضة، قبل أن يُعلِنَ التحالفُ عن إرجائها لأجل غير مسمّى، بعد تجريدها من علم غينيا بيساو الذى ترفعه؛ ليستحيل عليها الإبحار وقد تجرَّدت من الجنسية التى تشترطها القوانين البحرية.
ومفهومٌ طبعًا أنَّ الدولة الواقعة فى غرب أفريقيا انسحبت اضطرارًا، وأنَّ ما تعرَّضت له كان أكبر من قدرتها على مُواصلة التحدِّى والصمود.
والقصد من الاستعراض المُوجَز؛ أنَّ التجارب الستَّة لم تفلح أىٌّ منها فى الوصول إلى غزّة، وربما لم يكن مُنظّموها أنفسهم مُتفائلين لدرجة التيقُّن من إمكانية الرسوّ على ساحل القطاع.
وفيما كانت بعض الحكومات تستثمر فى المسألة، وتراجعت اضطرارًا أو لمصالح خفيّة فى المحاولات التالية، بل وتناسَتْ دماء ضحاياها، فلا معنى للمُزايدة إطلاقًا على غيرها بما لم تُتاجِر به أو تستأسِد فيه، ولا لانتقاد الرُّؤى الواقعية الداعية لعدم خلط المدنىِّ بالنظامىِّ.
كما لا معنى لمُجاراة المُتحمِّسين والمُتأجّجين عاطفيًّا لتوسيع رقعة الصراع؛ لا عن شعور بالواجب والمسؤولية وإمكانية الاستدراك على المأساة، ولكن لرغبة شعبوية ساذجة فى الابتزار والوصم، واندفاعة هائجة للنفخ فى النار وتسعير مزيد من حرائقها، على هدفٍ وحيد خلاصته أن يحترق الكل، طالما يتعذّر إنقاذ الجزء.
والمقصود بالجزء هنا ليس الغزّيين المنكوبين إطلاقًا؛ بل الفصائل الإسلامية المُسلّحة بهواها الإخوانى، والتى تضع نفسها فوق القضية ومُلّاكها الأصليين.
لا مُجرِمَ سوى إسرائيل، أكان فى العدوان على غزَّة أم فى البطش بأسطول الحرية ومواكبه المُتتابعة. أمَّا لو شئنا توسعة قوس الاتهام والإدانة؛ فربما يكون أَولى بالنقد من دَعَوا للتجربة قبل سنوات بعيدة، وتاجروا بها، وتربّحوا منها ومن الفائض العاطفى والتعبوى؛ ثم لم يستثمروا فيما حقَّقته، أو بالأحرى فيما عجزت عن تحقيقه.
وما تشجّعت إسرائيل على التنكيل بكلِّ قافلةٍ منها؛ إلَّا لأنها أفلتت بفعلتها النكراء مع النسخة الافتتاحية، وفُرِّطَ بحساباتٍ سياسية ونفعية غير بريئة فى ورقة الوَصْم الدعائى والأخلاقى، وفى إمكانيات التقاضى والمُلاحقة القانونية داخل الدول المعنيّة بالفشل وقتها، وعلى امتداد العالم الأول المُتحضِّر، مَنْ كان له نشطاء بين الجموع منهم، ومن لم يُشارك مُباشرةً؛ لكنه يدّعى الانطلاق من قِيَم سامية، ويزعم لنفسه السبق فى المُثُل وفى احترام القانون والضمير.
فى السطر الأول من الحكاية أُدينت إسرائيل بموجب تحقيقات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وحرّكت جزر القمر دعوى ضدها أمام المحكمة الجنائية الدولية، انطلاقا من كونها بلد التسجيل للسفينة التركية «مافى مرمرة»، انضمت فيها اليونان وكمبوديا لاحقا.
صحيح أنَّ مُدّعيتها العامة وقتها، فاتو بنسودا، رفضت القضية، وقالت إنها لن تُلاحق إسرائيل فيها، وأفسدت عدة محاولات للاستئناف؛ لكن النَّفس لم يكن طويلاً، لا من الحكومات صاحبة الحق الولائى بجنسية السفن أو الضحايا، ولا من المُنظَّمات المدنية المنخرطة فى التحالف.
بدا أن المسألة مقصودة فى إطارها الرمزى فحسب؛ وليس لأجل أن تكون مسارًا مُمتدًّا ومُتراكمًا من النضالات السلمية، وتبنى كلُّ حلقة فيه على سابقتها، فتفيدها وتستفيد منها، وتكبح إسرائيل عن تكرار الجريمة الموصوفة بمطابقةٍ مُتعمَّدَة، وباطمئنانٍ كامل إلى أنها ستنتهى فى كلِّ مرّة بالطريقة نفسها.
وعلى جرأة المادى وشجاعته فيما يخص الأساطيل المتتابعة؛ فإن الوقوف بصدور عارية أمام بنادق النازية الصهيونية لا يغنى عن الجانب الرمزى، فضلاً على أنَّ إهدار الفرص فى سباق النقاط والحصار المُتدرِّج، يجعل الوقائع تبدأ فى كلِّ محطَّة من نقطة الصفر، أو ما دونها، وتنقضى مفاعيلها بالإنزال على سطح السفينة، أو بإطلاق أَسرَاها المدنيِّين من السجون.
الغرام بالمشاهد الاستعراضية الساخنة مطلوبٌ للكشف والتعرية، والاشتغال عليها ونسجها فى جديلةٍ مُتماسكة وطويلة المفعول ضرورىٌّ لإدامة الأثر وتحقيق التراكم.
خطيئة الفصائل أنها أسقطت السياسة من حساباتها تمامًا؛ فاستُدرِجَت فى كلِّ موقعة إلى حربٍ غير متكافئة، تُسدِّد فواتيرها كاملةً، ولا تجنى منها مُقابلاً ولو معنويًّا.
ضمير العالم بطىء اليقظة وسريع الانطفاء، وفى كلِّ تجربة سابقة كان يحتاج ركامًا من الأشلاء ليستفيق، ولا يحتاج أكثر من اتفاق وصفقة تسويةٍ وقتيَّة ليعود إلى النوم.
وتلك خطيئة المجتمع المدنى أيضًا؛ لأنه يعمل باعتباره فريقَ طوارئ مهمَّته الاستجابة السريعة، وليس حاملاً لسرديَّة مُوازية وبديلة، يتعيَّن الاشتغال عليها فى أوقات السلم والحرب، ورعايتها وتدفيعها إلى الأمام فى كل مُتَّسع مُتاح؛ لتكون جاهزة وفعَّالة فى أوقات الضيق والمُلمّات.
يحتاج أسطول الحرية إلى أساطيل مُرافقة له، فى الصورة والقانون والجهود المدنية الدؤوب بديمومة لا تنقطع. والفراغ بين كلِّ رحلتين يتوجَّب أن يملأه الصخبُ الدعائىُّ والهمس القضائى، وأن تكون «مادلين» بدايةً جادّة لمعركةٍ تختصم إسرائيل بكلِّ الوسائل المتاحة، وتُتيح مسارًا عريضًا للنضالات المدنية المجاورة للحرب، والباقية بعد إخمادها.
وفى سبيل الوصول لهذا، تحتاج المُنظَّمات غير الحكومية إلى التشبيك والتكامل، والعمل المُتوازِى والمتزامن وطويل المدى، على صعيد تنظيم المُؤتمرات والتظاهرات والمحاكمات الشعبية، وتحريك الدعاوى أمام المُؤسَّسات الدولية المتاحة، وعبر الدول التى تأخذ أنظمتُها بالولاية القضائية العالمية أيضًا.
يحقُّ لكلِّ مواطنٍ أوروبىٍّ كان على متن «مادلين» أو أى من شقيقاتها السابقات أن يختصم تل أبيب، ويحقُّ لغيرهم أن يستفيدوا من هامش التقاضى العابر للحدود، وسيتضامن معهم آخرون بالقانون، وغيرهم بالدعاية والفعاليات الاحتجاجية والرمزية.
وعندما تصير إسرائيل دولة مُلاحَقةً من مرافق العدالة، وقادتُها مطلوبين للأقفاص شرقًا وغربًا؛ سينعكس الأثر على القضية الفلسطينية بالرواج وإبراز السرديَّة الحقيقية، وعلى المُحتلّ باختبار تجربة الحصار والوَصْم، واستحالة التطبيع مع جرائمه أو الانتفاع بفائض السماحة الغربية شديد الكرم والإفراط. والسوابق فى هذا عديدة، ومُثمرة معنويًّا؛ وإنْ لم تتوصَّل إلى آثار مادية قاطعة دومًا وفى كلِّ الحالات.
محاكمُ أوروبية عديدة تُخضِعُ عشرات السوريين حاليًا لمحاكماتٍ عن جرائم ارتكبوها فى الشام وضد أهله. السابقة الأبرز فى الحكم على ديكتاتور تشاد السابق حسين حبرى بالسجن مدى الحياة فى السنغال، عن جرائم ضد الإنسانية شملت القتل والاغتصاب والعبودية الجنسية.
سفَّاح تشيلى ذائع الصيت، أوجستو بينوشيه، اقترب من ذات المصير، عندما أوقفته لندن وفتحت إسبانيا تحقيقًا بشأنه؛ قبل أن تُغلِقَ القضية لأسبابٍ صحيّة فحسب.
وإسرائيل نفسها اختبرت المسألة فى 2009 بصدور مذكرة توقيف فى بريطانيا بحقِّ وزيرة خارجيتها تسيبى ليفنى، وقبول النظر فى دعوى ضد رئيس الوزراء أرييل شارون فى 2001 عن جريمته فى مخيم صابرا وشاتيلا اللبنانى 1982، ومحاكمة الوزير بنيامين بن أليعازر فى مدريد.
وحتى نتنياهو اليومَ يبدو مُقيّد الحركة نسبيًّا، بأثر مذكرة الاستدعاء من الجنائية الدولية، التى تشمله مع وزير دفاعه السابق يوآف جالانت.
كل الطبقة السياسية الإسرائيلية مُجرمون ومُتورّطون فى الدم، ومن ورائهم عشرات الآلاف من المنخرطين فى الجيش والأجهزة الأمنية. ولا يُتَوقَّع قطعًا أن يَمثُل كلُّ هؤلاء أمام المحاكم الدولية والوطنية؛ لكنَّ الادعاء والتقاضى يُحقِّقان هدفَ الوَصْم والإدانة الرمزية، ويُعزِّزان السردية العادلة، كما يزيدان حصارَ الاحتلال ويُطبّعان وجهَه بصورته الحقيقية المُتوحِّشة.
سيظلُّ مجرمًا ومُتبجِّحًا، ولن يسقُطَ عنه ستار الولايات المتحدة وبعض رُعاته وأصدقائه المُتطرّفين فى أوروبا القومية المُتيمِّنة وغيرها، لكنه لن يعود قادرًا على التشغيب الدعائى وادِّعاء الفضيلة، أو إثارة الغبار وخلط الأوراق فى معارك السرديات المُتضادّة.
ستفقد «الهاسبراه» وهجَها وقدرتها على الخديعة والتضليل، وسيتطوَّر الموقف من الشُّبهة إلى النبذ، وكلما تتابَعَت الوقائعُ يتعذَّر النفى والإفلات، وتتضاعف الأعباء المادية والمعنوية على الدولة الإبادية وعصاباتها الحاكمة.
مادلين حلقةٌ فى سلسلة نضالٍ دولىٍّ، يتعيَّنُ الاشتغال عليها بدأبٍ وحكمة، وعدم تعريضها لأغراض الابتزاز والتوظيف المُنحرف.
القائمون عليها أنفسُهم لم يختصموا أحدًا سوى إسرائيل، وما ذهبوا بحمولتهم الضئيلة لإغاثة مليونىِّ جائع؛ بل لتعرية المشهد المأساوى وفَضح المسؤول عن الحصار، وعن جريمة الإبادة قتلاً وتجويعًا.
لا وقتَ للمُزايدة والطفولية الساذجة أو الانتهازية المَقيتَة. العدوُّ واحدٌ واضح، والأبرياء الوحيدون أهل غزّة العُزّل، ممَّن لا يحملون أجندة أو يصطبغون بأيديولوجيا، ولا يعرفون سوى فلسطين ونكباتها المُتكرِّرة؛ بتوحُش الاحتلال حينًا، وبالاختلال وغبائه وانقساماته أحيانًا.