إنها السادسة صباحاً، استيقظ هشام طلعت من نوم لا علاقة له بالنوم، كان قد دخل فى نوبة أرق طويلة يتخللها نعاس للحظات أشبه بالسقوط فى حفرة، سرعان ما يتبدد بكوابيس مفزعة.
استيقظ محسن السكرى من نوم ثقيل، أسند رأسه أول الليل وغرق فى استراحة إجبارية فرضها عليه عقله النشط، اللحظات السوداء فائدتها نومها، الآن اليقظة مطلوبة فلتكن اليقظة إذن.
هشام يشعر بضيق الزنزانة، تكاد جدرانها تطبق على صدره طريق مظلم ملئ بالكلاب التى تطارده، يعرف فيه طعم الوحدة والانكسار للمرة الأولى، الوحدة قاسية والانكسار مر يقصم الظهر، فالشهرة والمال والعزوة وكبار المحامين الذين يؤكدون أن كل شىء تمام وأن البراءة مضمونة فى نهاية المشوار، مجرد كلام ينفيه واقع الزنزانة وجدران السجن والكلابش فى يديه.
فكر هشام أنه سيلتقى محسن السكرى فى عربة الترحيلات وسيواجه الناس من موقعه فى قفص الاتهام، ناس شامتون، ناس فضوليون، صحفيون يحصون عليه أنفاسه وحركاته ونظرات عينه.
فكر السكرى أنه سيلتقى هشام فى عربة الترحيلات، فبرمج عضلات وجهه على التجمد وعينيه على النظر إلى هدف محدد لا يحيد عنه.
فى السابعة كان هشام طلعت ومحسن السكرى فى طريقها إلى عربة الترحيلات، صعد هشام أولاً بالقيد فى يديه، يحيطه الحراس من كل جانب كأنما يفكر فى الهرب، ثم جاء محسن السكرى يبدو عليه الضعف ، فقد عدة كيلو جرامات من وزنه، ساعده الحراس على صعود الدرجات القليلة لعربة الترحيلات وعندما رفع رأسه التقت عيناه بعينى هشام، الذى بادره:
- بعتنى بكام.
-- دى لعبة والملعب مفتوح ، وأنت مش لوحدك.
- أنت خسيس.
-- خللى أحكامك لنفسك يا أصيل.
- أنت فاكر إنك هتفلت باللى أنت عملته .. أنت واللى وراك.
-- كل واحد متعلق من عرقوبه، فكر أنت فى نفسك يا باشا.
- أنا هطلع منها يا سكرى وأنت هتروح فيها.
-- لسة ما أتعلمتش، بص للأساور اللى فى إيديك قبل ما تتكلم، إحنا مش فى مكتبك.
قطع تحرك الحراس على مقاعدهم الحوار الصامت بين المتهمين، لكن اهتزاز عربة الترحيلات كان يسمح بتواصل الحوار مرة أخرى.
- أنت رايح رايح يا سكرى، فكر فى بنتك.
-- .............
- أنا عندى استعداد تتربى أحسن تربية وتعيش ملكة أنت مش فاهم.
-- ...............
- اللى دفعوهولك مش قد اللى ممكن أدفعهولك أنا .. حساب مفتوح.
-- ...........................
- الموضوع فى إيدك يا سكرى أنت تقدر تثبت براءتى وتكسب ولكن تقدر تعاند ونخسر إحنا الاثنين.
-- .....................................
نداءات وعروض وأسئلة هشام ارتطمت بحائط صمت السكرى الصلب وارتدت مثل كرة الاسكواش التى يفضل هشام أن يحركها بين يديه أو يضربها فى الملعب الزجاجى، لكنها ارتدت فى وجهه وهو جالس مقيداً فى عربة الترحيلات فامتلأت عيناه بدموع حارة، بذل مجهوداً جباراً ليمنعها من السقوط.
- فكر يا سكرى.
-- ...........................
فى المحكمة كان هناك حرص واضح على الفصل بين هشام ومحسن فى القفص فتم وضع كل منهما فى ناحية وبينهما العازل التقليدى الذى يفصل المتهمين عن المتهمات، فراغ له بابان مغطيان بالسلك لم يمنعا محاولات هشام لإقناع السكرى بتبرئته من التهم التى ورطه فيها باعترافه وتسجيلاته، كان هشام يرسل جملة واحدة إلى محسن السكرى عبر الحاجز بين القفصين.
- فكر يا سكرى
لكنها لم تكن كافية لإقامة حوار يمكن أن يصل إلى نتيجة مرضية لكل الأطراف، لأن الأطراف الغائبة لها مصالحها وخططها وتحركاتها فى اللعبة داخل الملعب الكبير الذى تختلط فيه السياسة بالاقتصاد وتلتقى فيه المصالح التى سرعان ما تتفرق إلى رغبة فى الانتقام بالقتل أو بالتحطيم والتصفية، حروب مصغرة تشبه حروباً كبيرة بين قوى إقليمية تتصارع على فرض مجالها الحيوى وتقليم أظافر خصومها أو قطع أصابعهم وأيديهم إذا اقتضى الأمر.
- فكر يا سكرى..
ارتطمت عبارة هشام بالحاجز الفاصل بينه وبين محسن السكرى، وارتدت إليه مثل كرة الاسكواش الصلبة، فنطق عبارته التى نقلتها عنه كل وسائل الإعلام، "حسبى الله ونعم الوكيل".
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة