حدثنى الزميل خالد صلاح عن وزيرة فى الدنمارك فوجئ أنها فى العشرينات من عمرها، واندهشَ لمّا شاهدها، عبر النافذة، تركن سيارتها بنفسها، من دون حراسة، من دون تشريفة، من دون قلق، لها ولمواطنيها. وحدثته عن عمدة زيوريخ الذى جاء يستمع إلينا فى مهرجان المتنبى 2007.
ركَنَ موتسيكله خارج المسرح وخلع خوذته وحملها، ثم أمسك يد زوجته التى جاءت على دراجتها ببلوزة خفيفة وبنطلون جينز. هكذا يحيا الرؤساء والوزراء هناك حياتَهم ببساطة، فييسرون الحياةَ عليهم وعلى الآخرين. إذْ ما الفكرة العبقرية فى أن تتعطل الحياةُ والمرورُ و«بلدى وحبايبى والمجتمع والناس» ساعاتٍ لمجرد أن وزيرا يمرُّ؟
دواع أمنية؟! طيب، هؤلاء، الغرب يعنى، حَلّوها ببساطة. حكموا، فعَدَلوا، فأمِنوا، فخرجوا دون حراسة. المهم، كان معرض كلامنا حول حتمية أن يتولى الشبابُ قياداتٍ حيويةً فى البلاد لكى تتقدم. وأخبرته أننى أراهنُ على نجاح «اليوم السابع» لأننى وجدت، بعد جولة فى أروقة الجريدة، أن النسبةَ الساحقة من العاملين بها، من صحفيين ومراسلين ومصورين ومنسقين وفنانين وفنيين وإداريين وسعاة، من الشباب الصغير اللى يفرح القلب. رئيس التحرير نفسه شابٌ، على عكس ما درجتْ عليه صحفُنا القومية من تولية هذا المنصب رجالا أوغلوا فى العمر، وأوغلوا، من ثم، فى فقدان حساسية التواصل مع نبض الواقع بشروطه الآنية ومشاكل شبابه. حدثنى أنه عمد إلى ذلك، وتعمّده، عند اختياره فريق الجريدة. وبالفعل تلمسُ، حال زيارتك الجريدة، روحَ الحماسة وفورة الإصرار على التجديد والتميّز والإدهاش.
وأما عن رهانى على الشباب فليس منطلقه نظريا ولا شعاريًّا، بل عن تجربة مررتُ بها مما لا يُنسى من تجارب. فكان أن دُعيت العام الماضى للمشاركة فى أحد أهم الأحداث الثقافية: «مهرجان الشعر العالمى فى روتردام» فى دورته الثامنة والثلاثين. وبعد الدعوة والموافقة ظل رئيس المهرجان «يان فاليم» يراسلنى على مدى سبعة أشهر لترتيب كل شىء: ترجمة القصائد إلى الهولندية، تدقيق كل كلمة مع المترجم، نوع الطعام الذى أفضّل، هل أنا نباتية، هل لدى حساسية من أية أطعمة، هل من أدوية لازمة يوفرونها لى، هل أدخن؟ كل ما يمكن تخيله من تفاصيل من شأنها أن تضمن لى، ولهم، ولكل المشاركين، أسبوعا مريحا فى هولندا، لكى ينجح المهرجان. وطوال هذه الأشهر ظللت أعامله بوصفه رجلا كهلا مهيبا. ذاك أننى بحسبة بسيطة، وساذجة، أضفت عدد سنوات المهرجان 38، إلى 40 سنة، (أقل عمر تصورت أن بإمكانه إدارة واحد من أهم الأحداث الثقافية فى العالم)، فوهبته إذن ثمانية وسبعين عاما. عقلى العربيّ ألهمنى فكرتين:1- أن الكهولَ وحدَهم يجلسون على الكراسى، 2- أن من يعتلى الكرسى لا يبرحه أبدا إلا بالموت. كلا الفكرتين لا يعرفهما الغرب.
ولأننى من المدرسة الكلاسيكية التى تبجّل الكبار جدًّا، ظللت أغدقه، فى رسائلى، بما وسعنى من نداءات التبجيل: Master- Prof.-Sir-Your Majesty- your Excellency- etc ، ولأنه فى عمر جدى، فكان ينادينى باسمى المجرد Dear Fatima، وحسب. وحينما وصلت المهرجان جاءنى شابٌ فى ملابس رياضية عمره حوالى 22 عاما يقدم لى نفسه: هالو، أنا يان فاليم! فسألته إن كان هذا تشابها فى الاسم مع رئيس المهرجان؟ فقال بل أنا هو! فصدمت. أهذا الفتى الغِرُّ قادرٌ على إدارة شئون أربعين شاعرا جاءوا من أنحاء العالم؟! نعم قادرٌ ونص وتلات تربع. ثم توالت المفاجآت لأكتشف أن كل فريق العمل بالمهرجان شبابٌ فى العشرينات من أعمارهم. لذلك نجح المهرجان، ولذلك تخفق مؤتمراتنا ومهرجاناتنا التى يربضُ على أنفاسها كهولٌ متكلسون لديهم رُهاب التجديد وفوبيا الشباب.
هذا المصطلح ليس نحتا أو اختراعا، بل هو مسجلٌ فى الموسوعة السيكولوجية ضمن الستمائة نوع من أنواع الرهاب. Cainotophobia هى الرعبُ من التجديد أو العصرنة. »انظر خلفَكَ بغضب«، عنوان مسرحية كتبها الإنجليزى جون أزبورن عام 1956، وهو الشعارُ الذى اتخذه شباب الحداثةُ، فى الستينيات الماضية، للمناداة بقتل الأب وهجر التراث والاحتفاء بالمستقبل. أما عنوان المقال فيبدو أنه السلوك الضدُّ الذى ينتهجه آباؤنا الآن ضد شبابنا الواعد!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة