من منا يقدر أن يتحكم فى قلبه وجدانه وردود أفعاله؟
جرِّب أن تقول لقبلك "لا تدق".. أو أن تقول له "أسرع فى نبضاتك"، فإن أطاعك فاعرف أنك ميت، وإن لم يطعك فتعالى وقف بجوار دينا أحمد عبد الموجود عبد العليم.
ومن هى دينا أحمد عبد العليم لتقف بجوارها؟
هى بنت فى الرابعة والعشرين من عمرها، تحب وتكره، وذنبها أن حظها "العاثر" أوقعها فى غرام ثلاثة شباب مسيحين، وهى مسلمة، لم تكن تعرف بديانتهم فى بادئ الأمر، وحينما علمت قطعت علاقتها بهم، والذنب الأكبر الذى ارتكبته دينا هى أنها عرضت تجربتها كشابة تخطت لتوها مرحلة المراهقة، ودخلت فى مرحلة الأنوثة، حيث النظرة بحساب والكلمة بحساب، والنفس بحساب، دينا رمت بكل تلك المحاذير الاجتماعية البالية، ونشرت بالعدد الثامن من اليوم السابع قصتها التى قالت فيها عن أول شاب أحبته "رامز لا يختلف عنى، اللون، الملامح، الرائحة، نظرة العين، لا يأكل ولا يشرب ولا يتحدث ولا يمشى بطريقة مختلفة".
وبهذا جسدت دينا عمق المشكلة وأسبابها وحلها فى ذات الوقت، فالمسيحيون كالمسلمين يعيشون تحت سماء واحدة ويأكلون نفس الأكل ويتنفسون نفس الهواء، وإن كانت وجهات النظر الدينية تمنع استمرار مثل هذه العلاقات وإضافة ثوب شرعى عليها، فلا يوجد فى الناموس الإنسانى ما يمنعها أو يحجمها، والبنت لم تخالف أياً من الناموسين، فلم "تنزلق" فى علاقة قد يصفها البعض "بالآثمة" ولم تتطرق إلى إحداث مشكلات طائفية كالتى نسمع عنها كل يوم، من تغيير ديانة واختطاف، وما أسرت به على الورق كان من الممكن جداً أن يظل حبيس صدرها طوال حياتها، لكنها أفضت بأسرارها لتعرينا، وتكشف زيفنا وازدواج معاييرنا، وعشوائيتنا.
ما فعلته دينا يسمى فى الأدب الإنسانى بـ "أدب الاعتراف"، ونتيجة ما فعلته دينا أثبتت أن مجتمعنا مازال بعيداً كل البعد عن هذا الشرف، فكيف نطالب المسئولين بالشفافية والديمقراطية وبالاعتراف، فى حين أننا نريد الآن أن نرجم دينا لأنها باحت بأسرارها، لتفاجئنا بالحقيقة العارية أن البشر بشر، والأرواح "جنود مجندة".
فى ساعات محدودة وصلت تعليقات القراء على موقع اليوم السابع إلى ثمانين، أغلبها جاءت غاضبة، مستفزة وجارحة، وبالطبع أغلب المعلقين كانوا من الذكور، الذين انجرحت كرامتهم لأن "البت" أحبت "نصرانى"، ولهذا حق عليها العذاب، وعلى الرغم من نهم شعبنا الشديد لـ "النميمة" واستعداده لاتهامه لها صباح مساء، إلا أن ردود الأفعال تجاه ما كتبته دينا أثبت أننا مازالنا نمَّامون مبتدئون، لا نرضى بنميمة إلا من وراء حجاب، ولا نحب من النميمة إلا ما وافق أفكارنا واعتقادنا.
سؤال كبير فجرته قصة دينا عبد العليم، وللحقيقة لم نكن نتوقع فى اليوم السابع، أن نسأل أنفسنا هذا السؤال: من تكون دينا ليثار حولها كل هذه الأحاديث، وأن تستحوذ اعترافاتها على كل ردود الأفعال هذه؟ فهى لم تكن يوماً من المشاهير، ولا من أصحاب المواقف المتشددة لكى يتم وصف فعلها بأنه خروج على تعاليم الدين، ولا هى جان جاك روسو أو أوسكار وايلد أو أندريه جيد، الذين أحدثوا باعترافاتهم ضجة كبيرة فى أوروبا، وأخرجوا مجتمعاتهم بما أسروا به من الظلمات إلى النور، فلماذا هذه الضجة التى أحدثتها دينا؟
الإجابة على هذا السؤال تتلخص فى الآتى: أن دينا "الصغيرة" لا تعبر عن نفسها ولم تكتسب قصتها كل هذا الرواج، إلا لأن "الصغيرة" أحدثت شرخاً فى مجتمعها الكبير، وأثبتت أنه مازال صغيراً مثلها لا يمتلك ميثاقه الخاص، ولا يحب أن تكون له شخصيته المستقلة الراسخة التى لا تتأثر بقصة عاطفية أو سلوكيات إنسانية عادلة، والمشكلة كما وصفتها الكاتبة زينب حنفى فى إحدى مقالاتها بجريدة الشرق الأوسط هى أن "القضية تكمن فى أن ثقافة الإنسان العربى تقوم على مداراة الحقائق، وأنه يشب على أن البوح بالحقيقة وقاحة، والصراحة مجازفة، وتعرية الواقع تهور، وعلى "العربى" أن يحترم تجارب الآخرين، والنظر إليها كدروس حياتية تستقى منها الأجيال القادمة ما يفيد غدها، وأن من يقول بعكس ذلك فليعش فى جزيرة نائية بمفرده!! وفى آخر المقال تتساءل زينب قائلة: من يملك الشجاعة على تلقى سهام المجتمع، دون أن تصدر عنه آهة ألم أو يسيل من جسده داء الوجيعة!! وأظن أن الإجابة حضرت أخيراً، فقد فعلتها دينا.