"موعود معايا بالعذاب يا قلبى، ولا بتهدى ولا بترتاح فى يوم يا قلبى، وعمرك..عمرك ما شفت معايا فرحة، كل مرة ترجع المشوار بجرح ..النهاردة جاى تقول أنسى الآهات".
دوماً كان نجمنا أحمد زكى يدندن بكلمات هذه الأغنية فى حياته العادية، وفى بعض أفلامه، وحدها "موعود" كانت تمثل حالة خاصة لأحمد، من ضمن الأغانى التى تغنى بها العندليب الأسمر. وفى الوقت نفسه وفى أكثر من حوار صحفى لعبد الحليم حافظ كان يؤكد هو الآخر أن "موعود" لها مكانة خاصة فى قلبه.
والمتأمل فى كلمات الأغنية سيجد فيها توصيفاً لحالتيهما معا فتانا الأسمر، وعندليبنا الأسمر، عبد الحليم غناها بوجع الأيام واستعاد شريط الذكريات بحلوها ومرها فى قريته "الحلوات" اليتم وافتقاد الحنان والبحث الدائم عنه فى عيون النساء، عبد الحليم ترجى من الدنيا فى أغنيته أن تعطيه الفرح وتبعد عنه الحزن، ولكن أبت الدنيا أن تعطى أى منهما الفرحة، لكنها أعطتهما مشواراً طويلاً مع الألم، المتأمل لسيرة حياة حليم وزكى ستدهشه وتصدمه فى الوقت نفسه، المفارقات القدرية بدءاً بأن الاثنين ولدا فجرا ـ عبد الحليم فى 21 يونيه 1929، وزكى فى 18 نوفمبر 1949ـ وهما يملكان نفس الوجه النحيل والجسد النحيف الضعيف، والملامح المنحوتة والعيون الغائرة المليئة بالحزن، ذهبا للملجأ، نبغا فى الدراسة، كانت القاهرة قبلة أحلام كل منهما، حليم شكل ثورة غنائية، وزكى شكل ثورة فى التمثيل، وغير مقاييس الممثل النجم، وحمل معه إلى السينما المصرية تيار الواقعية الجديدة.
حليم تحول إلى أسطورة فى الغناء وزكى إلى أسطورة فى التمثيل. قد نشعر بالدهشة من كم التفاصيل التى تربط أحمد زكى فى الواقع بعبد الحليم حافظ، وقد تكون كلمة الدهشة غير كافية للتعبير عن هذه الحالة التى تتشابك فيها التفاصيل وتتماس فيها العلاقات.. بل النظرة نفسها للحياة، فأى قدر جمع الاثنين؟!.
قد يكون التماس بينهما هو الذى جعل أحمد زكى يصر ويحلم بإنجاز مشروع عن عبد الحليم حافظ الذى يشبهه كثيراً.
وإذا كان الدكتور"ماكبث"أحد الأطباء الذين كانوا يعالجون حليم، وبالتحديد يقوم بعملية الحقن للشعيرات الدموية بالمعدة، قد ردد عن "حليم" جملة العذاب الكبير دائماً،ابن أخطاء صغيرة لم يلتفت لها الإنسان"، وكان يقصد فى حالة حليم استحمامه فى الترعة والتى أدت إلى إصابته بالبلهارسيا، ولكن أى أخطاء صغيرة ارتكبها "أحمد زكى"؟! هل عشقه التمثيل إلى حد الذوبان خطأ؟ أم تحامله على نفسه والعمل المستمر والمتواصل أنهكه، ربما هذا أو ذاك ولكن لماذا كتب عليه أن يعيش العذاب الكبير تماماً مثلما عاشه حليم، وقد تكون كلمة الشاعر سيد حجاب، التى تغنى بها المطرب"على الحجار" فى مسلسل الأيام تحمل جواباً للأسف ليس شافياً، بل موجعاً.
أحمد زكى ليس فقط ابن المحافظة التى ولد فيها عبد الحليم ـ محافظة الشرقية ـ ولكنه مثله عانى الحرمان، وكلاهما ظلا طوال حياتهما يبحثان عن الحنان وعن الحضن الدافئ، نفس الألم من اليتم.
رحل "حليم" وترك تراثاً غنائياً يبلغ 170 أغنية وهو تراث شديد الثراء والتنوع مابين الرومانسى والسياسى والإيقاعى والدرامى والدينى، وأحمد زكى قدم للسينما المصرية إنجازاًَ مماثلاَ فأفلامه التى تصل إلى 56 فيلماً تنوعت ما بين الأفلام الاجتماعية والكوميدية والسيرة الذاتية السياسية والرومانسية والأكشن، وطوال مشواره الفنى كان حريصاً على أن يصنع أفلاماً للتاريخ وأخرى للنجومية ولإسعاد الجمهور.
وامتلك الاثنان الموهبة النادرة، الحضور والكاريزما، الدأب على العمل والإنجاز ونفس العذاب والمعاناة من المرض... وأيضاً رحلا فى الشهر نفسه، ولا نملك إلا أن نقول لهما مقطعاً من الأغنية التى تغنى بها زكى فى فيلم "هيستريا" (إن مقدرتش تضحك متدمعش ولا تبكيش، وإن مفضلش معاك غير قلبك، أوعى تخاف، مش هتموت،هتعيش).
والأكيد أنهما مازالا أحياء بإبداعهما.