فئتان من المصريين اقتتلا، ولن يصلح العطار ما أفسد الدهر، هكذا يبدو الحال الآن بين بعض فئات الشعب المصرى الذى عاش طويلاً مقهوراً ومستضعفاً، ونظامه الحاكم الذى لا يجد إلا العصا الخشنة ليخضه بها، وبدت المواجهات بينهما سواء المباشرة ـ كالاعتصامات والمظاهرات، وغير المباشرة كالتذمر العام والإضرابات ـ فى الظهور والازدياد يوماً بعد يوم، وهذا يدل على أن هناك تغيراً سيكولوجياً كبيراً حدث للشعب المصرى الذى يُضرب به المثل فى الصبر بشهادة المثل الشعبى ـ اصبر على جارك السو... ـ فإذا بهذا الشعب يقرر ألا يحيا، وألا يمارس حياته التى يحبها لكنه وجد نفسه مجبراً عليها كل صباح، وسائراً فيها بحكم العادة لا الرضا، وتحت ضغط الحصول على لقمة العيش لا المساهمة فى بناء مجتمع راق.
والمثير فى الإضراب الأخير (6أبريل) أن الدعوة إليه أتت بدون قرار فوقى ولا ترحيب مؤسساتى، وأعلن "الإخوان المسلمين" عن عدم مشاركتهم فى الإضراب، وكذلك فعلت النقابات والهيئات المدنية والرسمية والأحزاب، وكان هذا أجدى وأنجح، لتظهر صورة الإضراب فى شكلها الشعبى فقط، وهذا السبب وحده هو ما يجعل للإضراب قيمة، فلو أضرب ألف مواطن فقط فهذا يعنى أن الإضراب نجح وبكل المقاييس، لأنه لا يوجد هناك من يدعمهم، ولا من يحفزهم سوى ضميرهم الوطنى، من جهة وإحساسهم بالقهر من جهة أخرى.
مرة ثانية أجد أن الحكم الشعبية والأمثال هى أقدر من عبر عن "محنة الإضراب" التى عاشها الشعب المصرى ودور البطولة هنا تلعبه الحكمة الشعبية القائلة "الله يخليكى يا شدة عرفتينى العدو من الحبيب" فقد مثَّل الإضراب "شدة" أجلت عن المزيفين زيفهم، وعن المزايدين على الوطن والدين مزايداتهم، وفضحت الكثيرين ممن يدعون الخير والفضيلة، من أصحاب القنوات الفضائية التى تدعى العلم بالدين واحتكاره، ففى ليلة الإضراب ظهر صوت الشيخ "هانى البنا" رئيس قناة الناس ليعلن إلى المؤمنين الخاشعين الذين يتابعون برنامج "لو عرفوه ما سبوه" أن الإضراب يضر بالاقتصاد المصرى، ويعطل المصالح ولا تفعلوا بمصرنا الحبيبة هذا، وامتثلوا للرئيس مبارك الذى يشعر بالشعب ويأمر بكل ما فى صالحه، وبعد اتصال الشيخ هانى جاء دور الشيخ أحمد مقدم البرنامج الذى عزف على ذات الوتر، وكرر ما قاله وليه، وبعدهما جاء دور الشيخ مجدى الذى ألقى بمسئولية الكرب الذى نعيش فيه على "الناس" مردداً آية" ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض" قائلاً إن الناس هى سبب الكرب وليس الحكومة لأنهم لا يأمرون بناتهم بالحجاب، لا يلزمون أصحابهم بالدين الحنيف، ثم ذكر أحد ضيوف البرنامج أن هناك الكثير من الأزمات والمحن والشدائد التى تعرض لها الشعب المصرى واستشهد على صحة كلامه بما كتبه المقريزى فى كتاب الشدة المستنصرية الذى أحصى فيها المجاعات التى حلت بمصر قائلاً إن صلاة الاستسقاء هى الحل، مستشهداً فى ذلك بما تفعله المملكة العربية السعودية، وإمعاناً فى توصيل الرسالة أمر الشيخ هانى البنا رئيس القناة بأن تطول مدة عرض البرنامج نصف ساعة كاملة، ختمها الشيخ أحمد قائلاً أوصيكم بمصر خيراً فلا تتبعوا الهمجيين ولا المخربين.
إلى هذا الحد وصل استغلال الدين فى قناة من المفترض أنها تحمل اسم "الناس" وبهذا الاسم من المفروض أن تشغل نفسها بما فى صالحهم ويشغلهم، لا بما يخضعهم للفقر والإذلال، متخذين السعودية كمثال يجب أن نحتذى به فى شئوننا الداخلية والخارجية، وليس غريباً هنا أن تسير جامعة الأزهر وكذلك الإخوان المسلمين على هذا الدرب الذى يصب فى مصلحة الشعب لا فى مصلحة أفراد أو جماعات محدودة، لكن ما حدث فى الشارع المصرى خيب كل هذه الدعاوى والتحريضات، وببساطة ما يقوله النظام كحجة له، هو فى الحقيقة حجة عليه، فالنظام دلل على فشل الإضراب بسريان الحياة فى السادس من أبريل بشكل طبيعى وسهل، بدليل أنه لا توجد معوقات مرورية، ولا أنشطة تظاهرية اعتراضية، وما لم يقله النظام أن الشوارع كانت خالية بالفعل، وهذا هو جوهر الإضراب، فهم أرادوا أن يوصلوا إلينا أن الإضراب يعنى التظاهر ومن ثم الاشتباك مع الأمن، والاختناق المرورى، إلا أن "الناس" فهمت الكلمة بمعناها الصحيح فمكثت فى البيت ـ بشكل نسبى ـ استجابة لدعوة الانسحاب من حياة الحزب الوطنى التى لا ينعم بها إلا أعضاؤه ورجال أعماله بينما بقية الشعب فى ضنكهم يعمهون.
وظاهره "الفتاوى بالطلب" ليست جديدة على مدعى التدين، فالمؤرخ جلال الدين السيوطى قد ذكر فى كتابه "تاريخ الخلفاء" أن هناك خليفة سأل رجال الدين "هل على ولى الأمر حساب" فأجابه أربعون فقيهاً بأن لا على الخليفة حساب أو عقاب فى الدنيا أو فى الآخرة، وإنه لا يسأل عما يفعل، وهذه الفتوى لا تحتاج إلى تعليق يظهر مدى نفاقها وتزلفها، وهذا ما لم ينقطع فى التاريخ الإسلامى إلا فيما ندر، فليس غريباً إذن أن يتجاهل رجال الدين ما يعانيه الشعب من تخبط وفساد واستبداد حكومى، ويحصرون الأمر كله فى فساد النفس الإنسانية وعدم التزام البنات بالحجاب، مستعينين على هذا بانتقاء مؤرخين واستبعاد آخرين، بل بانتقاء كتب وأقوال معينة من المؤرخ الواحد، فالضيف الذى استشهد بكتاب "الشدة المستنصيرية" للمقريزى سيكون أول من يهاجمه ويكفره إذا ذكر أحد ما قاله المقريزى عن صلاح الدين الأيوبى مثلاً، ما يدل على أن هؤلاء الشيوخ ما هم إلا "عصا ناعمة" فى يد الحاكم الذى لا يقبل إلا برأيه، ولا يراعى إلا مصلحته، ومصلحة من يتبعونه، ويقابل كل نداءات المواطنين بمزيد من القهر والعنف والتهديد، وبدلاً من مراجعة النفس والاستجابة إلى الاستغاثات يمعن فى قهرهم ويتجاهلهم ومطالبهم وكأنهم يعيشون فى عالم آخر، أو يحكمون شعباً آخر.