تدهمك عينه الضيقة المنكفئة فتتسع بشدة، وعليك أن تنتبه لأن الاتساع أحيانا قد يمهد للابتلاع، سرعان ما تضيق عينه على صورتك المنعكسة داخلها فتختنق حتى يكاد الدم أن يتفصد من أذنيك، وبعد أن "يسقط" من عينيك أو "تسقط" من عينيه - كلاهما واحد - ترى أن حاجبه قد ظهر معقوفًا موجهًا إلى السماء كسهم مكسور، وتفاجئ بنتوءات حادة تحت عينيه خبأتها النظارة العريضة المغبرة، فتدرك كم تصعب عليه الرؤية، وكم كان دخول صورتك إلى هذه العين محاطًا بالسياجات ومحفوفًا بالمخاطر.
عينه لا تتركك تعيش فى سلام وأمان، تراقبك أينما تكون، فتمر حياتك أمامك وأنت دائمًا وأبدا رهن الاعتقال، ولا مانع من أن ينالك منها من حين إلى آخر بعض بصاقٍ فى صورة شرر مستعر، الموانع والسدود والتحصينات لا تقدر أن تفصل بينك وبينها، فهى مثل شبكات المحمول القوية "تغطيك أينما تكون" فى الشارع، فى البيت، فى المواصلات، فى العمل، فى التلفزيون، فى الصحف، وحتى فى دورات المياه، ولا أمل لك فى أن تنقطع عنك الشبكة حتى لو لم تسدد الاشتراك.
الشيخ لا يبذل جهدًا كبيرًا فى تعلم اللغات، فقليل من كلٍّ منها يكفى لسد حاجته إليها، فهولا يحتاج إلى الفعل المضارع ولا المضارع المستمر ولا يميل إلى إدخال الصيغ المستقبلية إلا مع التهديد والوعيد، حينما يدخلك "بإذن الله جهنم وبئس القرار" وأفضل أنواع الأفعال عنده: الأمر والنهى فيقول لك افعل ولا تفعل، انظر ولا تنظر، قل ولا تقل، كل ولا تأكل، المس ولا تلمس، اسمع ولا تسمع، كما لو كان يستكثر حياتك عليك أو يريد أن يعيشها بدلا عنك، ولا يقتنع أبدًا بإمكانية استبدال المقاعد لأنه "قَعَدَ" قبلك، و"الحياة رحلة" التدرج فيها مثل الوظائف الحكومية "بالأقدمية" وهو الـ"قديم"، أقدم من كل القدماء والقادمين والمتقدمين والمقدمين، ولا أمل لمن يعانون من الرسوب الوظيفى فى "علاوة" كاذبة أو "كادر" وهمي.
لو نظرت إلى أنفه الذى استطالت مقدمته وتراجعت فتحتاه فستجده دائمًا وأبدًا "متعال" على شفتيه المقوستين كعلامة استفهام نافذة الصبر، أنفه فى حالة استنفار دائم لـ"شم" المعاصى – على درجة من العلو والتكبر تجعلك تتخيل أنه لم يسجد لله أبدًا، أنفه "المُشَمَرُ" مثل كم القميص فى الصيف لا يطيق الحر الذى ينبعث من جوفه بفعل حماسه المتقن، وبفعل "نار الله الموقدة" التى يبشر بها آجلا وعاجلا، وفى حديثه تشعر بحشرجة قاسية كما لو كانت حروف كلماته الميتة إكلينيكيًّا تسلم روحها فتخرج إلى الحياة وهى فى موت عميق، ومن حين إلى آخر يزيد فى تشمير أنفه بشيء يشبه التنفس فترتفع كتفاه، وينقبض صدره، ويضمر بطنه العريض وتمتلئ رقبته بالهواء.
أذنه تراجع إطارها الخارجى إلى الخلف واستطالت أعلاها مثل تلميذ اعتاد على الشد، أو كمن يسترق السمع دومًا من وراء وراء، وبمرور الأيام التحمت شحمتها بالصدغ لتقترب من فمه فلا يسمع إلا ما ينطق، ولذلك يتركها بلا قيد أو حجب، فهى مصدر علمه الأول والأخير وهى شرط وجوده ووجود من حوله وكأن لسان حاله يقول: "الإنسان أصله أذن".
دائما وأبدا تجد وجهه مكرمشًا مثل سروال داخلى نُسِى أشهرًا فى قعر غسالة قديمة، وهو بذلك يحاول أن يعمق فى "شيخيته" بإضافة تجاعيد عريضة تعطيه سمة الوقار والاحترام، متجهمًا ليوحى إليك أن هذه الحياة لا تعجبه لما فيها من فسوق ومروق عن جادة الأخلاق والدين.
يعيش حياته كأنه وحده السائق الذى يعرف الشاحنة كما يعرف الطريق، وهو أعلم بك منك ولابد من "التذكِرة" بذلك، و"التفتيش" عليه من حين إلى آخر، وهو لا يفعل أفعاله هذه تسلطًا أو كِبرًا وتعاليًا - حاشاه - فهو لا يبغى إلا الهداية، لكى تدخل الجنة التى يقف على بابها يطالبك بتقديم "المعاملة" ليعطيك الإذن والتصريح و إلا ستعامل معاملة راكب مزوغ من "التذكرة".
ولأن الحياة امتلأت على آخرها بصنوف المتآمرين والمندسين والخونة ونشالى الحضارات، لا يحب الكلام الذى يحتمل معنيين، ولا حتى معنى واحدًا لا يقبله، وكلما سمع كلمة ثقافة تحسس لحيته، يرهب بها "أعداء الله" وكأنه أعد لهم ما استطاع من لحية، واللحية عنده لها وظائف عديدة بعضها مادى وبعضها معنوي، وكلما كَبُرت اللحية قل شكك فى صاحبها، فلا تتيقن من هويتها بالضبط هل هى زيادة فى شعر الصدر أم فى شعر الرأس.
الشيخ يتسامح كثيرًا مع تحريف كلمة واحدة عن معناها الأصلي، وهذه الكلمة هى "الشيخ"، قديمًا كانت هذه الكلمة تطلق على الطاعنين فى السن أو فى العلم، وعلى الذين يحترمون مجايليهم ولا يستهزئون بهم، والآن يكفى الواحد منهم أن "يربي" لحيته و"يشمر" أنفه و"يزم" شفتيه و"ويدلف" فى جلباب كى يطلق على نفسه ويطالبك أن تطلق عليه لقب "الشيخ"، والأمر قد يلزمه طاقية محترمة يفضلها مثل "الطربوش الجبس"، يحكمها على رأسه وجبهته كى لا يُعَرِّضها للتيارات الهوائية الدخيلة، ولا مانع -فى أضيق الظروف- أن تكون الطاقية "شبيكة" شرط ألا تسأله عمن شَغَلَها له، أما قفاه فلا تتبين من شكله؛ لأنه يغطيه أيضًا بـ "لحية" فى الوراء، فلا تعرف كيف وصل إلى هذه المعادلة العجيبة، فتراه قادمًا نحوك وهو يرجع إلى الوراء، وتراه عائدًا إلى الوراء وهو فى الحقيقة يهرول تجاهك.
بدأ حياته بعمل الأحجبة وفك المربوط واستخراج العفاريت من جيوب المؤمنين، ثم حول نشاطه إلى "مول الآخرة" فى ضاحية بعيدة من ضواحى القاهرة، وكانت ميليشياته تهاجم أى رجل يمشى مع امرأة، إلى أن يثبتا بالبطاقة العائلية أن الشيطان ليس ثالثهما. بالرغم من أنه معلم سابق وشاعر من الأزمان الغابرة لا يعرف معنى الثراء اللغوى ولا ديمقراطية المجاز، فكلامه معروف سلفًا، ولا يحب الاشتقاق ولا التفصيل ولا التأويل ولا المجاز، وبعد أن ترك التدريس نقل الشيخ نشاطه إلى الكتاب والمفكرين، من يختلف معه يقع فى مصاف الكفرة، وفى حالات فريدة ينعم على من يخافه بلقب "ضال"، ومن ثم يجب استتابته وهدايته إلى الطريق المستقيم.
يهيأ لك أحيانًا أنه لا يؤمن بالعقاب الإلهى لمن يراهم عاصين، متآمرين، مأجورين، مخرفين، فيتربص بهم فى كل زاوية، وتحت أى حجر، ليصيب كلا منهم بسهم يطرحه أرضًا، ومن كثرة ما تراه فى وسائل الإعلام المسموعة والمرأية والمقروءة، وفى كل الاجتماعات العلوية والسفلية تظنه من أهل الخطوة! أما المشوار المحبب إلى قلبه فهو الطريق إلى النائب العام والنيابة العامة والمحاكم الجزئية والكلية والاستئنافية والنقض، وكأنه يؤمن بحديث مأثور يقول: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المحاكم فاشهدوا له بالإيمان" أو حديث آخر يبارك "المشائين إلى المحاكم"، لذلك يقاضى كل صنوف البشر: بسطاء، مثقفين، مسئولين، وشيوخا مثله، له فى كل دائرة قضية وفى كل محكمة حكم غير قابل للتعديل، وهذا فى حد ذاته يعتبر تنازلا كبيرًا منه؛ لأنه قبل أن يحكِّمَ "أحدهم" فيما شَجَرَ بينه وبين "أحدهم"، وهو "الذات" التى لا تقبل ردًّا ولا نقاشًا ولا اختلافًا، ولو ترك له الحبل على غاربه لنفذ الأحكام، لكن ـ ويا للأسف ـ "للضرورة أحكام".
يتردد الآن أنه ينوى المتاجرة فى أثاث المنازل وأدواتها القديمة من أوانى وأطباق وشوكات وملاعق وسكاكين، باختصار قرر أن يتاجر فى الروبابيكيا، لأن خطاه إلى المحاكم أثمرت عن تعويضات بالآلاف، تم تحويلها إلى ملاءات وستائر وسجاجيد... وخلافه، ومن المتوقع أن تتكرر غزواته، لذلك يؤسس فرعا جديدا لنشاطاته أسماه "فرع الغنيمة"، ويبدوا أنه بدأ مؤخرا فى تثقيف نفسه وقراءة الأعمال الكلاسيكية الكبرى، إلا أن حظ المثقفين العثر حاصرهم مرة أخرى، فوقع الشيخ على مسرحية "تاجر البندقية" ويبدوا أنه أعجب بها وتقمص دور "شايلوك" التاجر اليهودى الشهير، فيروى عنه أنه قال "إن لم أجد أموال سآخذ الأثاث، فإن لم ينفع فسأقطِّع من جلدهم حتى أحصل على حقي" وبما أنه لم ينل اعترافا من النقاد والشعراء بفصاحته وتفرده الشعرى قرر أن يلاحق الشعراء ويمنع عنهم ما يحصلون عليه من منح أو عطايا حتى إن وصل الأمر إلى القضاء، وما على الشعراء إلا أن يزفوا من "يقع" منهم قائلين "كان بدرى عليك... عليك بدري"