يتمنى كثير من العاملين فى حقل الإعلام التليفزيونى ، لو أنهم يمتلكون ذلك القدر من الحرية ،الذى يبدو كأنه ملك لأمثالهم من أبطال مسلسل "المحطة"! المسلسل ـ الذى يذاع حصرياً فى الثامنة مساءً على قناة "الحياة" ـ وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه، وعن نقاط ضعفه وقوته، هو الأول من نوعه الذى يدور بالكامل فى كواليس العمل البرامجى . يظهر المسلسل المعاناة الشديدة للعاملين فيه، والتحديات اليومية التى تواجههم، وربما أن هذه هى أهم نقاط قوته ، ففنياً يليق به أكثر، توصيف الـ sitcom منه إلى المسلسل التقليدى .
يظهر المسلسل مثالية كل أفراد فريق العاملين فى المحطة ـ تقريباً ـ وعلى رأسهم مديرتها، يبحثون عن الخبر بحيادية و موضوعية ـ لا توجد فى الواقع بهذا الشكل أبداً ـ ما يعرضهم لمضايقات مستمرة وبلطجة وأزمات مالية .
لكن .. ما لم يتعرض له العاملون فى "المحطة " حتى الآن، هو اتهامهم بالإساءة لسمعة مصر .
تغطية الواقع دون الوقوع فى فخ الإساءة، هو تحدى حقيقى، تجنب الوقوع فيه ليس بالشىء السهل. والأمر نفسه أيضاً يتعلق بنقل الواقع من جوانبه الإيجابية ـ وإن كانت قليلة ـ فقد يتعرض الإعلامى للاتهام بالمجاملة إن هو نقل صورة جيدة عن الواقع، فأحياناً لا يصدق البعض أن فى مصر أشياءٌ حلوة، أو أن هناك من يقدمها هكذا لوجه الله . وحتى إن لم يكن تقديمها خالصاً لوجه الله تماماً ، فإن بيان الإيجابيات فى بلدنا ليس عاراً على الإطلاق، بل هو فرض عين .. إن صح التعبير .
وبرغم مبالغة الأداء الواضحة فى "المحطة" إلا أنه يمكن ارجاعها إلى مشكلات فى الكتابة، لكن إلى ماذا يمكن إرجاع ضعف السيناريو فى برامج حوارية تنقل من الواقع مباشرةً ؟
فقرة واحدة تم تقديمها مرتين فى شهر واحد، على برنامجين مختلفين، تخص طفلة فى الثامنة من عمرها، تم اغتصابها على يد خالها .
الجريمة البشعة قدمها برنامج "90دقيقة" من خلال فقرة يومية، لا أعرف الهدف منها تحديداً، كونها تناقش مشكلات وقضايا مصرية شديدة الخصوصية، ورغم أيضاً أن كل البرامج الحوارية تناقش قضايا مصرية ملحة، إلا أنه فرق كبير بين هذا، وبين "نشر الغسيل القذر"، فإذا كانت الحالة التى يتم عرضها لا ترقى إلى مستوى الظاهرة، فما الحكمة من تقديمها فى برنامج حوارى مسائى يذاع على فضائية يشاهدها العالم ؟ فمن ناحية لا يوجد أى مبرر لعرضها باعتبارها حدثاً يستحق، ومن ناحية أخرى فإن التناول لم يرق إلى مستوى الواقعة نفسها، فقد تم استعراض الحادثة البشعة وحسب.
التناول الأفضل كان من خلال برنامج "مساءك سكر زيادة "، حيث تم استضافة طبيب نفسى، وناشطة فى جمعية نسوية، وتم مناقشة الحالة ليس على اعتبارها ظاهرة، وإنما كحادث فردى ينضوى تحت إطار العنف فى المجتمع المصرى وضمنه التحرش الجنسى، والدليل على أن التناول الأخير كان الأفضل، هو نوعية رسائل الـ sms التى أرسلها المشاهدون ،الذين تفاعلوا مع الواقعة واتجاه سير المناقشة، ورغم أن الناشطة الحقوقية النسوية التى تمت استضافتها، عارضت اقتراح إعدام المغتصب الذى أرسله أحد المشاهدين، إلا أن هذا النقاش كان الأقرب لما تستحقه القضية.
د. "محمد يحيى الرخاوى" والذى كان ضيف الحلقة أثار النقطة الأهم، حيث اعتبر أن تصوير الطفلة تليفزيونياً فى حد ذاته يمثل إيذاءً لها، وهذا هو بيت القصيد. ما مقدار الاستفادة إذا قارناه بقدر الخسارة، عند تصوير الطفلة وتخليد ألمها ؟ الأمر لا ينطبق على هذه الحالة وحسب، فما الفائدة التى ستعود على المشاهد، أو أصحاب المشكلة، فى حالة أخرى عرضها " 90 دقيقة " لأب ينفى نسب ابنه الشاب نكايةً فى الابن والأم ؟ يستضيف البرنامج الجميع، ليكيلوا الاتهامات الجارحة : الأم والأب والابن وشقيقة الأب، ما يستنتجه أى عاقل بسهولة، هو أن الأب مختل نفسياً، أما ما سيتوصل إليه أى مشاهد عربى، هو أن مستوى أخلاق المصريين فى انحدار بلا رجعة ! أما المشاهد المصرى العادى فسيتم "حرق دمه" بحكاية لا تمثل أى دلالة على الاطلاق سوى كونها استهلكت مساحة لا بأس بها من سهرته .. فـ"حرقت دمه" وأوصلته إلى لا شىء!
وبالعودة إلى حادثة اغتصاب الطفلة من خالها، فإن الشكل الذى كان لا بد أن تعرض به، هو ملابسات الحادث أكثر من الحادث نفسه، فالخال المعتدى كان قد خرج من السجن قبلها بعدة أيام لا أكثر، وفى قضية اغتصاب أيضاً.
الأسئلة التى كان لا بد أن تطرحها فقرة مثل هذه ـ وبعيداً عن التعاطف والتأثر ـ هى كالتالى : لماذا حصل الجانى على سبع سنوات فقط ؟ لماذا لم يخضع للتأهيل داخل السجن لمعرفة مدى تراجع قدرته على ارتكاب الجريمة مرى أخرى ؟ لماذا لم يخضع للمراقبة ؟ وإذا كان المجتمع المصرى يعانى من زيادة نسبة جرائم الاغتصاب .. لماذا لا يتم توقيع أقصى العقوبة ؟ ولو كانت المجنى عليها فى مثل هذه الجريمة مؤهلة للحمل .. فما الحل فى نسب طفلها ؟ أسئلة كثيرة كانت تليق بالفقرة لم يتم طرحها، تم الاكتفاء بالسبق المتمثل فى عرض الجريمة ذاتها وإقناع الضحايا بالتصوير، ربما تحت إغراء المادة، أو الضغط النفسى، أو منح الأمل فى الحصول على المساعدة. لكن المؤكد أيضاً أن الضحايا (الفتاة وأسرتها) سيتألمون كثيراً كلما ابتعد الوقت ليكتشفوا أن الواقعة المؤلمة مخلدة على الشاشة .
لا يمكن اتهام فقرات مثل هذه بالإساءة لسمعة مصر، لكن شاشة التليفزيون تستحق حذراً أكثر فى التعامل معها، لأنها تعكس صورة البلد ليس بشكل مباشر وحسب ، وإنما بشكل غير مباشر أيضاً، مثلاً .. إذا شاهدنا أى تقرير يصور فى الشارع المصرى، وابتعدنا قليلاً عن موضوعه الرئيسى، ونظرنا إلى الخلفية " الشارع نفسه"، سنعرف على الفور كيف هو شكله : ملابس الناس، شكل وجوههم، الازدحام ... إلخ وهى أشياء لا يمكن تزييفها.
لكن هناك أشياء تتعلق بسمعة مصر لا يمكن التحكم فيها على الشاشة، لأنها تخرج عن إطار قدرة فريق البرنامج على التحكم، ومنها أداء الضيف . فى حلقة تم تخصيصها لمناقشة مشروع قانون الطفل، استضاف برنامج "العاشرة مساءً" عدداً من الضيوف كان منهم الصحفى وعضو مجلس الشعب "مصطفى بكرى" باعتباره معارضاً للقانون ، للأسف لم يكن أداؤه كمعارض على مستوى قوة حجج المؤيدين، فبدا وكأنه يعارض وحسب، هذا الأداء الصادم الذى إن عكس، فإنه يعكس ضعف الحوار على مستوى "النخبة" المصرية، لم يمنع برنامج "الحياة اليوم" من استضافة "بكرى" بعدها بأسبوع للحديث حول الموضوع نفسه، فلم تكن الفقرة سوى "معركة " كلامية بينه والضيف المؤيد للقانون، لم يكن سلاح " بكرى " فيها قوة الحجة ـ مرة أخرى ـ وإنما الأداء الانفعالى الذى لا يناسب برنامج تليفزيونى، كانت الفقرة مزعجة للغاية، ومن سبق وشاهد حلقة "العاشرة مساءً" كان لا بد سيتوقع كل كلمة سيقولها "بكرى"، فما الدافع وراء استضافته من الأساس خاصةً بالأداء الذى بدا به عند مناقشة القانون بعيداً عن الموضوعية ؟ وما هو التميز الذى يعنيه استضافة ضيف سبق استضافته للحديث عن الموضوع نفسه فى برنامج آخر ؟ . بالتأكيد .. ليس وحده المعارض للقانون، المبرر الوحيد هو "الاستسهال" ..ليس إلا.
أما "ما زاد الطين بلة " فهو تدخل مذيعة البرنامج "دينا سالم " فى الحوار حين رفضت رفع سن زواج الفتاة إلى 18 عاماً ، معللةً ذلك بخوفها من انتشار العلاقات غير الشرعية! لم تعرف "دينا" أن المذيع عليه "أن يقل خيراً أو ليصمت" .. بدا حينها "ماجد ماهر" ـ الناشط الحقوقى فى مجال الطفل و الضيف المؤيد للقانون ـ وكأنه فى معركة ضد "بكرى" والمذيعة .. لكن الخاسر لم يكن هو ، وإنما مشاهد افتقد الموضوعية والاحتراف.