بدا الرقم مفزعاً للغاية، حين ظهر على الشاشة: " 2 مليون مصرى يعيشون فى المقابر ".
بقى الخبر مدة دقائق، طوال عرض التقرير القصير على شاشة "العربية"، ضمن نشرتها المسائية. "شعور بالخجل ".. هو وحده ما يليق باللحظة، حين تشعر بأن "فضائح" وطنك، تجد مكاناً آخر تعرض فيه، هكذا على الملأ دون مواربة، يعرفها الآن الملايين الذين يتابعون هذه الشاشة، الدقائق المعدودة بدت طويلة للغاية. التقرير الذى أذاعته "العربية" مصوراً، حصلت على صوره من وكالة خاصة، لكن المؤكد أن التصوير كان فى مصر، مع أشخاص بدت "المقابر" بالنسبة لهم هى كل الحدود المتاحة للحياة.
اعتدنا رؤية المشهد كموقع لتصوير فيلم سينمائى، ليس أكثر، كأن المتفرج يتعامل مع المسألة باعتبارها عنصراً درامياً ليس إلا، يخرج من صالة السينما، ليتذكر الأبطال والنهاية، دون أن تعلق بذاكرته صور المقابر التى تحولت إلى محل للسكنى، لكننا فى عصر التليفزيون، حيث لا شىء يستعصى على "الفرجة "!
سأل صحفى فى أحد المحافل ذات مرة: هل يوجد فى مصر بالفعل أناس يعيشون فى المقابر؟
التبس عليه الأمر، أراد أن يعرف، هل ما يراه فى السينما هو حقيقة أم خيال؟ من المؤكد أنه عرف الإجابة الآن. ما حجم المتاح بالنسبة للتليفزيون المصرى، للتعامل مع حالات مثل هذه؟ هل شاهدنا على شاشته سكان المقابر يعيشون فيما لا يليق بالبشر؟ التغطية التى قدمتها "العربية" لواقع حقيقى ليست وحدها المشكلة، فالرقم المفزع أيضاً كان له وقعه، خاصةً إذا أضفناه إلى أرقام أخرى تقترب منه، كعدد أطفال الشوارع فى مصر.
كل ذلك لم يعد سراً، فما الذى يقدمه إعلامنا فى مواجهة ذلك؟ هل ينكأ الجراح.. قبل أن يفعلها غيره؟ هل يقدم حملةً إعلامية كى يعرف مشاهدو القنوات العربية، أننا لسنا سكان مقابر وحسب؟ الحقيقة أنه لا يفعل هذا ولا ذاك. فى التوقيت نفسه الذى أذاعت فيه "العربية" التقرير المؤلم، كانت شاشة أخرى "الساعة"، تعرض الجزء الثانى من فيلم وثائقى أمريكى بعنوان " According to Goerg Bush"، الفيلم الأمريكى انتقد كل ما له علاقة بـ"جورج بوش" بدءاً من سياساته، وصولاً إلى شخصيته، بأقسى مما قد يفعل إعلامى غير أمريكى، لم يصادر الفيلم، ولم يمنع من العرض، ولم يعتقل منتجوه. وهذا هو الفرق بين سقف النقد المتاح للإعلام، وانعكاس ذلك على قدرته على استعراض الواقع.
المفارقة، أن الليلة نفسها على شاشة "دريم"، شهدت حلقة غير مألوفة، فالبرنامج الذى تتسم أكثر فقراته بـ"الشراسة"، قرر أن تكون فقرته الرئيسية "حالمة" للغاية! استضاف شاعر هو "محمد بهجت" الصحفى بالأهرام، و"ياسر أيوب" الصحفى بالأهرام أيضاً، و"نوارة نجم" الصحفية المشاغبة وصاحبة واحدة من أشهر المدونات على شبكة الإنترنت.
الفقرة كانت عن "الحلم".. ما هى أحلام المصريين؟ وذلك رداً على حالات الانتحار فى الثانوية العامة، وحالة الاكتئاب الموجودة عند المصريين بشكلٍ عام، وبرغم وجود "نوارة" لم تكن الحلقة "مشاغبة، "، مالت أكثر إلى أن تكون "حالمة"، واستدعت عدداً كبيراً من المكالمات التليفونية، تحدث فيها المشاهدون عن أحلامهم، بمجرد فتح طاقة لممارسة الحلم، كانت الصورة مختلفة تماماً، مصر قادرة على أن تحلم، ورغم أن الضيفين الصحفيين ينتميان لمؤسسة لا مساحة فيها للحلم، إلا أن كلاً منهما مارس فعل الحلم أثناء الحلقة. الفقرة كانت بديلاً لواقع مؤلم، كأنها استبدال له، لكنها فى كل الحالات كانت وجهاً آخر أفضل مما كان على "العربية" فى الليلة ذاتها.