"أيها الموت انتظرنى/ خارج الأرض انتظرنى فى بلادك/ ريثما أنهى حديثا عابرا مع ما تبقى من حياتى." قالها منذ سنوات، حينما كان يجرى جراحة دقيقة فى قلبه، ففزع الأطباء الذين كانوا يجرون له الجراحة، بعدما ظنوا أن قلبه توقف، لكن درويش عاد إلى الحياة أقوى وأجمل ليكتب جدارية، كزهر اللوز أو أبعد، حالة حصار، فى حضرة الغياب، لكن التاسع من أغسطس أبى أن يرحل قبل أن يقول الموت كلمته الأخيرة فى حياة محمود درويش.. ترى.. هل نسى هذه المرة أن يقول للموت "انتظرنى.."؟ أم أنه أنهى حديثه العابر مع ما تبقى من حياته؟
فى كل يوم كان يكتب قصيدة فنسكر نحن وينتشى هو، كان يعيش شعرا، ويحب شعرا ويسكن شعرا، وما أصعب أن نكتب كلمة "كان" مع "درويش" فهو الـ"كان" والـ"كائن" والـ"سيكون".
يكتب بقوة تاريخنا الضائع فيجمع شتاته، ويحوله إلى أيقونة أبدية المعنى وحتمية الإدهاش، يهرب من جغرافيا الحدود، والمنافى والمخيمات إلى فضاء "البيت" و"الشطر" و"المجاز"، فيمنحنا وطنا وزهرة وامرأة، فى قلبه هاجس أبدى يقول له "اخلق عالمك أيها الطريد" فيخلق عوالم شتى ويزرع شتائل الشعر الندية، بلا تكرار لرؤية أحد، ولا تشابه مع معجم الآخرين، كالوادى الأخضر، لا ينال منه خريف ولا يصعب عليه شتاء، وكأنه يطبق أن "لله المثل الأعلى" فكان كل يوم فى شأن يعطينا من أنهار العسل والخمر، واللبن الذى لم يتغير طعمه.
يوسف شاهين..عبد الوهاب المسيرى..محمود درويش، يفصل بين رحيلهم أيام ويجمع بينهم حب الوطن والتغنى بالإنسان، ماتوا وتركونا أحياء موتى لا ندرى ماذا نفعل بحياتنا، بعد أن فارقها من كانوا يعطونها عنوانا وتعريفا وطعما، "جو" الغارق فى ذاته المصرية الخالصة والواصل بها إلى عالمية النموذج، والمسيرى كلمة الحق التى ميزت بفطرتها بين الحقيقة والافتراء، ودرويش فتى العرب المدلل، المعذب، المغامر، المقامر، الفريد، الشجى، السمح، الكريم، الشاعر، المغنى، الحزين، القوى، الواضح، الغامض، الثائر، العميق.
لماذا لم يقل للموت: أيها الموت تأدب أنت أمام شاعر، لماذا عاش طريدا ومات غريبا، وهو الذى أعطانا حياة لا تفند وجمالا لا يحد؟ فاستكثرنا عليه أن يلقى على قريته القديمة نظرة وداع، لماذا لم يقل للموت "لا الرحلة ابتدأت ولا الدرب انتهى؟ ولماذا مات كالآخرين، وكأنه ليس محمود درويش؟ أم تراه أراد أن يحيا قليلاً، لا لشىء، بل ليحترمَ القيامةَ بعد هذا الموت.