ما الفرق بين الواقع والأسطورة؟ من وجهة نظرى لا شىء، فالواقع أسطورة لم يتم كتابتها، والأسطورة واقع تم تجاوزه واستخلاصه ومعرفة جوهره، ثم عمل فيه الخيال ليضيف عليه أبدية واستمراراً. ودائماً تدفعنا الأسطورة إلى السخرية من أحكام القضاء، والعبث بالمقادير، للإيمان بالإنسان كقيمة حقيقية تتحدى قسوة الطبيعة وطغيان الاستبداد. وفى ظنى أن لكل أسطورة ما ترتكز عليه فى الواقع، لتكتسب حيوية وصدقاً، لكن لو طبقنا هذا الافتراض على قضية العبارة التى راح ضحيتها 1034 إنساناً، يحملون أحلاماً صغيرة، وشوقاً كبيراً، فماذا سيتبقى منها ليخلد فى ذهن البشرية؟
فى ظنى أن ما سيبقى هو شريط الصندوق الأسود كأيام المصريين، الذى حمل لنا الصفير دائم، والأصوات البشرية المتقطعة وحروفها غير المفهومة والأوامر الصادرة من القبطان التى لا يعرف مغزاها إلا من تصدر إليه، وجملة واحدة أتت واضحة، مستفزة، أليمة، "... المركب بتغرق يا قبطان .. المركب بتغرق يا قبطان .." ملخصة لنوبة الغرق، التى يعوم فيها الشعب المصرى ولا تقدر أذرعه على حمله للنجاة منها والوصول إلى شاطئ الأمان البعيد.
قادرة هذه الجملة ــ المركب بتغرق يا قطبان ــ على اختراق قوانين الطبيعة، فإن سمعتها بالليل تنير لك عتمة الاتهامات، وإن سمعتها بالنهار أظهرت لك مقدار الحلكة التى نتخبط فيها. بالتوازى مع انهزامية الجملة، تتصاعد فى الخاطر حماسية أغنية "مصر يا اما يا سفينة مهما كان البحر عاتى ... ملاحينك فلاحينك يزعقوا فى الريح يواتى .." ثم تأتى الأسئلة: إن كانت مصر سفينة، فلماذا قسى عليها البحر إلى هذه الدرجة، وإن كان "ملاحينك فلاحينك" فلماذا خان الفلاحون بعضهم البعض، وإن كانت "زعقة" أبنائها فى الريح تجعله يأتى صاغراً، فلماذا وهن صوتهم للدرجة التى تجعله هسيساً لا يقوى على الخروج من الشفاه، وإن خرج لم يسمعه أحد، وإن سُمع لا يجد إلا الاستهانة؟
"المركب بتغرق يا قبطان"... من قائلها؟ ما شكله؟ كيف واجه مصيره؟ ... أسئلة لن تجد لها إجابة، لأن أعظم كلاسيكيات الأدب فى الشرق لا يُعرف لها كاتب، وإن عُرف، فحوله غموضاً كبيراً وحيرة أكبر، ينتمى إلى هذه النوعية مجهولة المصدر مؤلفات خالدة مثل ملحمة جلجاميش، إيزيس وأوزوريس، ألف ليلة وليلة، وحتى فى الغرب لا يكاد الأمر يختلف كثيراً، وهذا الجدل فى نسبة الأعمال الكلاسيكية الكبرى إلى فرد بعينه، فتح الباب للإضافة والتحريف وإعادة إنتاجها فى صور أدبية كثيرة، وساهم أيضاً فى صنع مجدها وخلودها، وهذا ما سيحدث تماماً مع قضية العبارة وجملة غرقها الشهيرة.
البحر فى معظم أساطير الشرق يلعب دوراً كبيراً، وخاصة فى أسطورة إيزيس أوزوريس، فبعد أن يقتل ست إوزوريس يلقى به فى النيل الذى يحمله إلى البحر المتوسط ثم إلى لبنان، ثم تعيده إيزيس وتقيم صلواتها لتحييه وترجعه إلى مصر، فيقتله ست مرة أخرى ويلقى بجسده فى النيل ليذوب عضو أوزوريس الذكرى فى المياه ليعطى الخصوبة للمصريين، وبعد أن يكبر حورس ابن إيزيس وأوزوريس يقتل ست ويلقى بجسده فى النيل فيأكله السمك، فيحرم المصريون أكل سمك النيل على أنفسهم، ترى كيف سيتعامل المصريون مع أسماك البحر الأحمر؟
أولى خطوات تحويل قضية العبارة إلى أسطورة هو الفيلم الذى يتم إعداده الآن، ومحتمل أن تجد أغنية الفيلم تحمل معنى يقترب من "المركب بتغرق يا قبطان"، وليس ببعيد أن تكتب حول هذه الحادثة المروعة مسرحية شعرية مأساوية، تصور ممدوح إسماعيل كإله البحر المستبد الذى يغرق عبارات الحجاج الطيبين، ويميت الشباب المهاجرين إمعاناً فى الاستبداد، ومن الجائز أيضا أن تكون المسرحية هزلية، تثأر للضحايا وتُغرق الجناة، ويأتى الحكم ببراءتهم، وتجريم الأسماك التى التهمتهم، والحكم عليها بتقيؤ الجثث والالتزام بالمصاريف وأتعاب المحاماة، لتصبح جملة "المركب بتغرق يا قبطان" هى عرض حال شعب بأكمله، ويصبح اسم ممدوح إسماعيل عنواناً كبيراً لحالة فساد فى البر والبحر.