ارتعد بدنى وأنا جالسة احتسى فنجان قهوة فى بوفيه جريدتنا، وجلس بجوارى سيد سلام عامل البوفيه ببشرته السمراء وملامحة الصعيدية الأصيلة، يحكى مأساة أصدقائه وجيرانه بالدويقة.. وكيف كان سماسرة الموت يرتزقون من وراء الكارثة، ويلملمون جراح الناس بحيل وكلمات معسولة، ويصنعون من آلامهم أحلاماً للعيش من جديد. جلس يمد لى يده ليُرِيَنّى أثر الجرح التى كانت تلملمه عبير الممرضة التى أخرجوا جثتها بدون ذراع، قائلا "بيدها يا أستاذة كانت تغير لى على عملية أجريتها فى أيدى"، ووصف كيف وقفت أمها تغطى لحمها وتضمد بيدها مكان ذراع ابنتها المبتور، وتصرخ فى وجه الظلم، والزمن المر الذى خبأ لها مرارة، سيظل طعمها عالقاً للأبد فى حلقها.
وكيف خرج مقاول المنطقة الحاج كرم "بالبلدوزر" الخاص بشركة مقاولاته، يتبرع بإخراج الجثث من تحت الأنقاض، لينقض الحفار تحت الصخر، ويخرج ما يطوله لتخرج معه بقايا الجثث والأشلاء، فهذا بدن بدون رأس، وهذه بلا ذراع، وتلك بلا قدم، وهؤلاء طحنت عظامهم مع أجسادهم.. لتخرج عشرات الجثث بلا هوية، ولا يستطيع ذووهم التعرف عليها، ويخرج البعض أشلاء لا يعرف إلى أى الجثث تنتمى، لتذخر بها مشرحة زينهم!! وتستخرج التصريحات بالدفن، ليطوى تراب المقابر مآساة شنعاء بفعل سماسرة الموت. على الجانب الآخر من الدويقة، قادتنى قدماى لأشاهد بعينى صبيان تجار الخردة يهرولون إلى المنكوبين، يساومونهم على ما تبقى من أثاثهم المتهالك ليشتروه بأقل ثمن.. يزيحون عنه الحجارة، ويلقون به على مرمى أيديهم، مرددين عبارات تذكر صاحبه بمأساه فقره.
وهناك بعض الشخصيات (الأنيقة) تقف بكل شموخ، تستظل بشمسية، يملأون استمارات شقق بمقدمات بسيطة، هى فى الغالب ملك لشركات وهمية، أو هم تابعون لوحدة الحصر بالحى، التى لو كانت قامت بدورها فى البداية ماحدثت الكارثة. وهنا يفتح باب خلفى آخر لأحد سماسرة الموت، تراهم فجأة يذيبون الصعاب ويملكون العصا السحرية لحجز شقة، ويعرفون " فلان" و"علان" لكن الباب لن يفتح إلا لو " شخشخت جيبك، إن شاء الله حتى تستلف أو تبيع عيل من عيالك".
ولمحت عينى هذا الحفار الأعمى الذى يدب الأرض فيخرج بقايا بنى آدمين، ويرج الجبل ليخلخل بيوت لم يطولها الانهيار الصخرى، ليجعل منهم أبطال لكارثة أخرى جديدة بعد فترة، ويقف أهلها منتظرين أن يفتح لهم باب الخروج من جحيم الجبل ويعلنون استعدادهم لدفع أى مبلغ ليتركوا بيتوهم، و"ينفدوا بجلدهم" لأى شقة بعيدة.
ذكرتنى أشلاء الموتى بالدويقة بعجز الجميع وأنا منهم، بهؤلاء السماسرة من مقاولين وتجار خردة، وصائدى الأحلام، وهؤلاء الذين يحملون كاميراتهم وأقلامهم، وأبطال الفرح الذين يصنعون من الكابوس بطلا قوميا، يخرج ما فى جعبتهم من كلمات يتشدقون بها عن الإنسان وحقوق الإنسان، هؤلاء الذين لو وقفوا وقفة حقيقية منذ البداية متبنيين حملة إعلامية صادقة، للمطالبة بحق هؤلاء فى مكان آمن وعمل آدمى، ومأكل ومشرب صحى، وحللوا أجندات التمويل، وعرباتهم الفارهة التى لو بيعت إحداها لحلت أزمة هذه الأسر، والمرتبات الباهظة التى لو استغنوا عنها شهرا واحدا لبنوا لهم منطقة سكنية تحميهم!! ظلت مقولة "مصائب قوم عند قوم فوائد" تعكس منهج حكومتنا الموقرة فى التعامل مع كوارثنا المعظمة، ولا عزاء للضعفاء، والعاقبة عندهم فى المؤتمرات.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة