تحاصرنى الكوابيس منذ أسبوعين، وأشعر أننى سأستيقظ لأجد ضحايا غزة فى غرفتى، وأن حنجرتى محاصرة، وأن بلادى محاصرة وأن قناعاتى محاصرة، أينما ذهبت أشم رائحة البارود وتسبقنى صور الجثث فى الشوارع والشجب على المنابر، ما يحدث هو الجنون بعينه وأنا وأنت «شاطرين فى الكلام» كل منا يظن أنه على صواب، وأن لديه من المبررات ما يكفى لتحرير القدس، ومع هذا يزداد عدد الضحايا والمفكرين والمناضلين وكتاب الرأى وبرامج «التوك شو»، ستجد من يرمى التهمة على المثقفين والضحايا، وهناك من يرى أن الموضوع «خلص» وأن علينا أن نجلد أنفسنا بدون رحمة، لأننا فشلنا فى اختيار أرجلنا، وعجزنا فى الدفاع عن خطواتنا.. كنت أظن أن البلاغة العربية فى أزمة، وأن اللغة فى طريقها إلى المستقبل، وأن التفكير «الحر» سيخلص أمثالى من المهدئات.. ما الذى يمكن أن يقال أو «يكتب» والدم يسيل فى الصالة وأنت تشاهد التليفزيون؟ كيف تنجو بنفسك من الفوضى التى نصبها أعداؤنا لنا؟..
لم تجد «أستاذا» تثق فى رأيه بعد أن مات الأساتذة وظهر آخرون يشكلون الرأى العام بأموال سعودية وقطرية وليبية، بأموال رجال أعمال يلعبون لحسابهم لكى يكسب الأعداء أرضا جديدة، صوت الثقافة فى محنة غزة هو أوهن الأصوات، وهذا ليس غريبا فى ظل نخبة ابتلعها المال والسلطة كما قال عزت القمحاوى فى أخبار الأدب، «لأن مثقفى المواجهة منذ بداية القرن الماضى حتى تشريف الأنظمة الثورية لم يسعوا إلى ثراء، لم يبحث العقاد عن شقة أوسع من شقته، ولم يسع طه حسين إلى فيلا شاطئية فى مارينا، ولم يرق المازنى لعابه انتظارا لفرصة الفوز بجائزة أو بمكافأة التحكيم فيها، ولهذا احتفظوا بلمعان أفكارهم وأرواحهم، بينما انطفأت أرواح نخبة اليوم وفقدت كلمتهم السطوة والمعنى، وأخيرا فقدت الصوت، وأصبحت وراء الشارع لا أمامه».. طوال الأسبوع الماضى أحاول أن أتخلص من الكوابيس دون جدوى، صفحات الرياضة تحولت هى الأخرى إلى ميادين قتال، الاحتلال الإسرائيلى أفسد ملاعب الكرة وجعل «الأبراج» لا تبشر بشىء، الذى نجا من القصف طوال الأسبوع الماضى هو صوت على الحجار، الذى انتبهت الصحف - فجأة - والقصف على أشده أنه موجود وأنه قادر على الغناء نيابة عنا.
ستة أو سبعة حوارات معه فى أسبوع، بمناسبة ألبومه الجديد «حواء وآدم»، فى البديل والمصرى اليوم والوفد، على الحجار يشعرك أنه من حرافيش نجيب محفوظ، قابلته فى «أسانسير» مصلحة حكومية، فتوة يحمى الغناء من هجوم الكليبات العارية، صوت «غامق» و«غويط» يحتاج إلى ملحن يذيبه كما فعل بليغ حمدى وعمار الشريعى، يحمل على الحجار بداخله طموحات وإحباطات جيل السبعينيات، يحترمه الناس لأنه منهم، ولكنه لا يجعلهم يغنون معه بسبب قوة صوته، وإحساسه بأنه الأقوى، نجاحه هذه المرة هو نجاح للقيمة وهزيمة للوليد بن طلال، هو مؤشر أن «الصوت المصرى» قادر على المباغتة رغم اعتراض الوهابيين على أغنية «حواء وآدم» لحن عمار، الذين لم يكن لهم وزن عندما غنت شادية قبل ثلاثين عاما لحن بليغ الرائع «أنا حاسه إنى معاك حوا والعالم من حوالينا يا روحى جنة»، أسعدنى نجاح على الحجار هذه المرة، لأننى أحبه، وأظن أن عليه مسئولية كبيرة، هى أن يجعل الناس تغنى معه، وأن يعرف أن البساطة هى أقصر طريق للقلوب، ولا تستطيع قوة أن تمنعه من الغناء، سنوات طويلة من الصداقة والغناء والشعر والبهجة جمعتنى بعلى الحجار، كانت الليالى فيها فسيحة والخطوات واثقة.. وللأسف حدثت جفوة بيننا قبل تسع سنوات.. أظن أنه كان مسئولا عنها.. وألبومه الجديد بددها.