كتب الأستاذ سمير كرم، مقالاً بعنوان "حرية الرأى بين المطلق والنسبى"، فى جريدة "الشروق"، حيث تناول الكاتب الكبير مسألة "الموضوعية" فى مقالات وأعمدة الرأى فى الصحافة المصرية، سواء أكانت صحافة حكومة "قومية" أو صحافة أهالى "صحافة خارج النظام"، وقارن بينها وبين (الموضوعية) فى الصحف الأمريكية الرصينة مثل "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" و"لوس أنجلوس تايمز" وهو موضوع على درجة عالية من الأهمية، وإن كانت المقارنة سوف تكون بالتأكيد ظالمة للصحافة الأمريكية وأكثر ظلماً للصحافة المصرية والعربية، وكما قال الكاتب الكبير فإن الموضوعية (واللاقطعية) تحتاج فى إبداء الرأى إلى المعلومات والبيانات والإحصائيات (الداتا اللازمة)، وهو ما لا يتوفر دائماً لكاتب الرأى فى الصحافة المصرية، ولذلك فإن كل مقالات الرأى فى الصحف المصرية والعربية تبدو قطعية دائماً دون أن يهتم كاتب الرأى بذكر الأسباب أو الدليل على قطعية رأيه، وبذلك فإن الكثير من الآراء فى صفحات الرأى تأتى كمحاولة للتنفيس عن بعض المشاعر أكثر من كونها رأياً موضوعياً - ولا قطعياً - بحسب تعبير سمير كرم.
ولا شك أن أى رأى للكاتب الكبير سمير كرم فى أى أمر من أمور الصحافة يجب أن يؤخذ على محمل الجد وباهتمام بالغ، فالرجل قضى ما يقرب من ربع قرن مراسلاً صحفياً وصاحب عمود رأى فى واشنطن وحدها، وكنت قد عاصرته فى بيروت منذ سنة 77 فى عنفوان الحرب الأهلية اللبنانية، حيث كان يشرف على إصدار مجلة "الكفاح العربى" التى كان يستكتب فيها بعض الكتاب المصريين الذين كنت واحداً منهم وكانوا قد اختاروا "بيروت" منفى لهم بعد معاهدة "كامب ديفيد" ومن قبلها "مبادرة روجرز" عندما كانت "بيروت"- رغم الحرب الأهلية - مكانا آمنا لكل من كان صاحب رأى أو معارضاً لنظام الحكم فى وطنه على ظهر الكرة الأرضية كلها.
كما كانت "بيروت" فى هذه الأيام مكانا آمنا لكل مندوبى الحركات التحررية فى العالم كله، فقد كانت أيضاً مكاناً جاذباً لكل أجهزة المخابرات والجواسيس والانتهازيين ومكاناً لعقد الصفقات بين بعض الدول العربية وكثيراً من الكتاب والصحفيين من كل الأشكال والألوان والانتماءات، كما كانت مكانا لبعض المغامرين من الباحثين عن الثروات تحت شعارات براقة من الحرية والنضال، فكان هؤلاء يدبجون مقالات الرأى لصالح هذا الزعيم العربى وضد زعيم عربى آخر يناصره آخرون، وهذا يقبض من هذا، وذلك يقبض من ذلك.
وقد عاش سمير كرم وسط هذا الخضم المتلاطم من المزايدة والتربح بالنضال، لكنه - وأشهد الله - لم يكتب ما يخالف ضميره ككاتب وكصحفى مصرى محترم، لم يأكل إلا من قلمه وكد فكره ورأيه، الذى لم يبعه لقاء شقة على نهر "التيمز" فى لندن أو على نهر "السين" فى باريس، لم يبع رأيه فى مقابل بطاقة سفر بالدرجة الأولى بالطائرة لتناول طعام الإفطار فى "برلين" أو شرب فنجان قهوة مضبوط فى "اسطنبول".
لم يبع سمير كرم روحه إلى "ميسوفتوفليس" ولا إلى أى شيطان كان يمتلك صحيفة أو مجلة، وبالرغم من أنى كنت فى هذه الأيام البيروتية الصعبة أعمل محرراً فى وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" إلا أننى كنت ملتزما مع سمير كرم بكتابة مقالة أسبوعية فى مجلة "الكفاح العربى" التى كان يشرف على إصدارها عندما كانت من كبريات المجلات العربية على الإطلاق، وكان الرجل الكريم يقابلنى هاشاً باشاً ومقدماً كل ما يستطيعه من جهد لمساعدة كل من كان يحتاج رأيه، وكم كنت أشعر بسعادة لا حدود لها عندما يدعونى على العشاء فى بيته البسيط، الذى كان يعيش فيه مع السيدة الفاضلة "إجلال" زوجته التى كانت تعمل معنا فى منظمة التحرير الفلسطينية فى مركز الدراسات الفلسطينية عندما كان الشاعر الكبير محمود درويش مسئولاً عن مركز الدراسات الفلسطينية قبل أن يحاصر أبو عمار المركز بقواته ويلقى القبض على "محمود درويش" لمجرد خلاف فى الرأى، ونخرج جميعاً من "بيروت" مع الخروج الفلسطينى الكبير من "لبنان".
وتمضى الأعوام، وتجرى مياهها كثيرة فى كل الأنهار، وفى عام 2000 كنت فى أمريكا ويعرف سمير كرم أنى موجود فى "فيرجينيا" من أحد الأصدقاء وأفاجأ به يحضر لمقهى "الواحة" الذى أجلس دائماً فيه لتدخين الشيشة، حيث يمتلكه شاب مصرى يجيد تقديم الشيشة بالمعسل المصرى الذى لا يوجد إلا فى مصر، ويتكرم الكاتب الكبير كعادته وبتواضعه ورقته ونبله يسعى لمقابلتى لتقديم كل ما يستطيعه من معاونة ممكنة لكنى كنت قد قررت الرحيل من أمريكا والعودة إلى الوطن، وكان سمير، كما كان دائماً، معتزاً بكرامته وكرامة وطنه، معتزاً بشرفه ومصريته، لدرجة أنه رفض الحصول على الجنسية الأمريكية، متسائلاً: "كيف أسمح لنفسى أن أقسم يمين الولاء لأمريكا؟"، حيث إن القسم بيمين الولاء لأمريكا هو الشرط الأساسى والإجراء الضرورى أمام كل المهاجرين للحصول على الجنسية الأمريكية، هذا بالرغم من أن ابنه الطبيب "عادل" المولود فى أمريكا مواطن أمريكى ناجح.
ويقول سمير كرم فى نهاية مقاله، إن حرية الرأى تضع على صاحب هذا الرأى المسئولية الأكبر أمام قارئه، وفى الوقت نفسه لابد من مساحة سماح لهذه الحرية لكى لا تختنق برأى يذهب إلى الاعتقاد بأن الموضوعية واللا قطعية شرطان مطلقان، فهما ليسا كذلك فى أكثر دول العالم تمتعا بحرية الرأى وحرية المعلومات، وعندما يقول سمير كرم، ذلك فإنه يكون متسقاً مع نفسه كما كان دائماً؛ فمنه - ومن أساتذة آخرين - تعلمنا كيف يكون تحمل مسئولية الرأى مساوياً لتحمل كافة النتائج المترتبة على هذا الرأى مهما كانت هذه النتائج، بقى أن أقول شيئاً عن سمير كرم، كنت أكره أن أقوله، وأعتذر للأستاذ مقدماً عن قوله لكنى سوف أقوله - حتى يتذكر كل إخواننا أقباط المهجر- وهو أن سمير كرم قبطى مصرى يعيش فى أمريكا، والمعنى فى بطن الشاعر.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة