لن يعرف أحد مطلقا من الذى منح هذا الرجل لقب "الشيخ" الذى يسبق اسمه، ولن يحاسب أحد مطلقا مقدمة البرنامج بشعرها المنكوش كما لو كانت قد خرجت لتوها من غرفة النوم، وهى تقدم "الأخ سيد" وهى تسبق اسمه بهذا النعت المحترم لدى جمهور المشاهدين، وقد جلس "الشيخ سيد" مرتديا زيا يوحى للمشاهدين بأنه يستحق هذا النعت المحترم، فقد ارتدى العباءة المطرزة بالشريط الذهبى فوق "البدلة" المقلمة بالأقلام اللامعة والتى بدت لامعة تحت مصابيح الإضاءة وهو يواجه كاميرا برنامج "الأبراج" حيث انبرى "الشيخ سيد" لسؤال سيدة من جمهور المشاهدين عن اسمها واسم أمها، حيث أسعدها "الحظ" أخيرا، واستطاعت بعد مجهود شاق دام عدة أشهر فى محاولة الاتصال التليفونى ببرنامج الأبراج الذى يستضيف دائماً المنجمين والمنجمات والمشعوذين والمشعوذات الذين يقدمون ترهاتهم البرجية للمواطنين فى برامج "التوك شو".
وليس "الشيخ سيد" وحده هو الذى يقدم هذه "الخزعبلات" فى هذه القناة الفضائية فقط، بل هناك قنوات فضائية أخرى تطلقها بعض الدول العربية التى تنص دساتيرها على أن الشريعة الإسلامية هى مصدر التشريع فيها، وسوف تجد الشيخ أبو رجب والشيخة أم سعيد والشيخ أبوعلى والشيخة أم وائل والشيخة أم سلطان، وقد يسعدك حظك فتشاهد "الدكتور سعد" وهو يقدم "الرؤية العلمية" الخزعبلية للمشاهدة التى أجابت على اسمها واسم أمها وتطوعت باسم زوجها بالرغم من أن "الدكتور سعد" لم يطلب منها معرفة اسم زوجها، فهو يكتفى باسم الشخص واسم أمه فقط فى معرفة كل مستقبله.
وسوف تجد سيلا من "الإيميلات" ورسائل الـ SMS""، والتى تكون بالطبع دخلا لا يستهان به من دخل القناة الفضائية البرجية، حيث يبحث الكثير من المشاهدين والمشاهدات لدى "المشايخ" و"الشيخات" و"الدكاترة" عن حل لمشكلاتهم التى لا تنحصر فى تفسير أحلامهم فقط، بل أيضا بحثاً عن دواء لمرض مستعصى سواء كان المرض نفسيا أو عضويا، وبحثا عن دواء شاف من العقم وعلاج ناجع لطول مدة زمن العنوسة، أو تأخر الزواج والرغبة الملحة والجامحة لمعرفة المستقبل. وبعد أن يعدل "الشيخ" من عباءته يأتى صوته فى "وقار مصطنع" ليصف وصفته السحرية، مرتدية قناعا من الدين وبعض آيات القرآن فى فك السحر والخلاص من "العمل المعمول للمشاهدة المسكينة"، ويبدى استعداده المجانى فى عمل الحجاب اللازم مؤكدا على أنه لا يكتب فى أحجبته لفك السحر إلا بعض الآيات القرآنية التى لا يعرف سرها أحد أكثر منه، كما أنه يكاد هو الوحيد الذى يعرف "الاسم الأعظم" من أسماء الله الحسنى.
وقد أكدت هذه "الفضائحيات" على كفاءتها فى الربح من وراء رسائل الـ SMS"" أكثر من القنوات الفضائية المخصصة للأغانى، حيث يرى أحد أصحاب قنوات الأغانى أن "تورتة الإعلانات" لم يعد فيها "تنتوفة" إلا لـ"فضائحيات" الأبراج وفضائيات الرياضة، وذلك لكثرة القنوات الغنائية التى تتصارع على الإعلانات التى تقدم الرعاية للبرامج مع الارتفاع المتزايد فى النفقات، حيث قرر بعض المستثمرين فى الفضائيات استبدال قنوات الأغانى وغيرها بالقنوات الرياضية، وبالذات التى لا تهتم إلا برياضة واحدة هى "كرة القدم"، ولا شك أن القنوات الفضائية العربية قد انتشرت، وصارت فى منتهى الأهمية السياسة لعامة المواطنين، وتساعدهم على تكوين أرائهم فى الموضوعات العامة، ومن قبل هذا فقد كسرت حاجز الوصاية الرسمية على ما يشاهده المواطن الذى كان- وما يزال- التليفزيون الرسمى للدولة يقدم له أخبار الرئيس والمعلومات والأفلام والمسلسلات والأغانى والثقافة، التى تحاول توجيه توجهات المواطنين بفجاجة وعنف خفى لإكساب السلطة الحاكمة رضاء شعبيا مفتقدا، حيث تلعب قلة من الفضائيات دورا مهما فى توسيع هامش حرية التعبير وتكسر سيطرة الدولة على واحد من أهم وسائل الإخضاع والسيطرة، بالرغم من سيطرة الدولة الشاملة على هذه الفضائيات سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فما زالت السلطات الحاكمة تسيطر على الفضائيات حتى التجارية منها، أو التى تبدو مستقلة، بل إنها أتاحت لهذه السلطات وسائل جديدة فى الهيمنة والاحتكار فى مجال الإعلام المرئى أكثر خبثا ولؤما وأقل التزاما بالمعايير الرسمية الثقافية والأخلاقية والسياسية، "ولم يكن رجال الأعمال والمستثمرون الإعلاميون سوى واجهات لغسيل السياسات الرسمية للسلطات الحاكمة حتى تظل استثماراتهم منتعشة فهم لم يكونوا سوى وكلاء لحكام أكثر قسوة منهم، وأكثر التزاما بالتعليمات والسياسات الرسمية".
غير أن هؤلاء المستثمرين قد تخلصوا من تعيين المذيعين ومقدمى البرامج ومعدى ورؤساء تحرير هذه البرامج بالطريقة التى كانت مستخدمة من قبل تليفيزيون الدولة، والتى كانت فى الغالب الأعم تعتمد على "الواسطة"، حيث تم تعيين الكثيرين من أبناء المسئولين كمذيعين ومقدمى برامج، لكن أصحاب القنوات الفضائية قد استعانوا بمقدمى برامج أكثر لمعانا جماهيريا وشهرة جماهيرية من مقدمى ومذيعى تليفيزيون الدولة، فاستعانوا ببعض الممثلين والصحفيين المعروفين جماهيريا، غير أن تليفيزيون الدولة الرسمى بالرغم من اعتماده على "الواسطة" فى تعيين مقدمى البرامج، إلا أنه التزم بالمعايير اللازمة للعمل الإعلامى كحصول مقدمى البرامج على المؤهل الجامعى المناسب كحد أدنى لشروط التعيين، على عكس القنوات الفضائية الخاصة غير الرسمية التى لم تلتزم فى تعيين مذيعيها ومقدمى برامجها بشرط الحصول على المؤهل الجامعى اللازم.
بل إن هناك بعض القنوات الرياضية الخاصة قد قامت باستخدام بعض مقدمى البرامج الذين لم يحصلوا على مؤهل جامعى مناسب للعمل بالإعلام، ومن المعروف والمتفق عليه فى كل بلاد خلق الله أن هناك "رخصة" لازمة لممارسة أية مهنة تصدرها نقابة يتبعها كل أفرادها، إلا فى مهنة مقدمى البرامج فى الفضائيات، فهل يهتم المسئولون عن الإعلام والممارسون له بإنشاء نقابة لممارسى الإعلام فى الفضائيات، سواء كانت رسمية أو غير رسمية، بحيث تضع هذه النقابة الشروط اللازمة للانتساب إليها وإعطاء "الرخصة" اللازمة لممارسة العمل بها؟ حتى لا تتحول هذه الفضائيات إلى مجرد فضائحيات.