رغم موته دائما ما أرى وجهه أمامى ينظر إلى الفراغ بنظراته النافذة كما لو كان يستحضر صور وخيالات كل الذين رحلوا.
كل من رأى "عبد البديع عبد الحى" مرة واحدة لا يمكن أن تغيب عنه ملامحه بعد عشرات السنين، فكما كان هو ينحت صخور الجرانيت والديوريت والكوارتز والبازلت فإن ملامح وجهه كانت لها المقدرة على أن تنحت لنفسها مكانا فريدا فى ذاكرة كل من رآه.
كان يكبرنا – أنا وجيلى- بما يزيد عن ثلاثين عاما، ولكن لم يجرؤ أحد منا على أن يقول له "عم عبد البديع"، بل كنا نقول له وبالفم الملآن "الأستاذ"، فى أواخر سنة 74 اصطحبنى الكاتب والمفكر الكبير "إبراهيم منصور" معه لزيارة "قاهر الجرانيت" فى بيته بمصر القديمة وأصر "قاهر الجرانيت" على أن نتعشى معه أكلة كوارع سوف يطبخها بنفسه، وليلتها حكى "قاهر الجرانيت" كيف بدأ حياته طباخا فى بيت أحد الأكابر فى بلدته "ديروط" فى صعيد مصر وكيف بدأ ينحت التماثيل، و"قاهر الجرانيت" هو الاسم الذى اشتهر به "الأستاذ عبد البديع".
ويقول الفنان التشكيلى الكبير "مصطفى الرزاز" إن عبد البديع عندما تقدم للتجنيد سنة 37 تقريبا أخبره الضابط الإنجليزى المسئول عن التجنيد أنه غير لائق للجندية، لأن عينيه بهما حول، فاستنكر "عبد البديع" الشاب ما قاله الضابط الإنجليزى فضربه الضابط بالكرباج، فخدش الكبرياء الصعيدى وأصر على قتله، ولكن تخطيطه لقتل الضابط الإنجليزى تبدد نتيجة للاستحكامات الأمنية، وفى طريق العودة إلى السكن حصل على قرن جاموسة فنحته بسكين الطباخ على شكل صورته يصرع الضابط البريطانى، وكأنه يستعيد تلقائيا تقاليد حفر السكاكين الجرانيتية فى عهود ما قبل الأسرات المصرية التى تصور صاحبها منتصرًا يصرع عدوه، ثم يتقدم "عبد البديع" للمتحف الحربى بالقاهرة عام 1942 بعدد من التماثيل التى صنعها يصور فيها نفسه فى ملابس جندية من أسلحة مختلفة.
لقد حز فى نفسه كثيرًا رفضه فى التجنيد، بعكس اتجاه أبناء جيله إلى التهرب من التجنيد بدفع "البدلية" أو بقطع إصبعه، وقبل المتحف هدية عبد البديع مما رفع من معنوياته، وعندئذ مسه هاجس الفن الذى حول حياته تماما.
ويحكى عنه "مصطفى الرزاز" أنه فى عام 1944 يقرأ عن مسابقة "محمود مختار" التى أنشأتها الرائدة النسائية "هدى هانم شعراوى" و"المسيو" بول فيس" فيستخدم "عبد البديع" عتبة باب رخامية وقطعة مبرد قديم وشاكوش تكسير السكر فى صنع تمثال لفتاة تمشط شعرها، ليفوز بالجائزة الأولى فى المسابقة التى يشارك فيها أهم النحاتين الوطنيين، فيلفت نظر السيدة "هدى شعراوى" وتلحقه طباخًا فى دائرتها بمدينة "ملوى"، وقبلت إهداءه إياها تمثاله الذى أسماه " ست الحسن" الفائز بالجائزة.
فى العام التالى يحصل على الجائزة الأولى فى النحت وعلى نفس الجائزة فى ذات المسابقة عام 1948بفضل تميزه فى ترويض الأحجار الصلبة، وتعبيره عن الموضوعات البيئية والاجتماعية فى تماثيله وعندما عرضت عليه السيدة "هدى شعراوى" أن تمول منحته ليدرس فى إيطاليا، وكذلك عندما عرض عليه الدكتور "طه حسين" بعد أن تــولى وزارة المعــــــارف أن يبعــــث به إلى فرنسا للدراســــة وزيارة المــتاحف والمراســـــم فضل البقاء بمصـر، وطلب الالتحاق بمرسم الأقصر وعندما كان فى سن السابعة والعشرين ألحقته السيدة "هدى شعراوى" بالقسم الحر بمدرسة الفنون الجميلة، ففاز بمنحة وجائزة مرسم الأقصر بين عامى 1940 ـ 1950، حيث كان يعمل فى مهنة صب النماذج بينما كان هو ينحت وجوهًا مصرية وأطفالاً يلعبون، وطيورًا وحيوانات بيئية ـ كالبط ـ والقطط التى تصارع الثعابين تارة، وتلتهم أسماكا تارة أخرى وينحت من الصوان تماثيل لشخوص فلاحية، وعارية فى أوضاع مثالية متكتلة تتبع هيئة الحجر المتاح له .
وفى أثناء العمل فى كتلة من حجر البازلت سقطت منه بلطة على ساقه، استدعى الأمر علاجًا طال لثلاث سنوات ومن حينها أصبحت الجلابية هى رداؤه المريح والدائم. كما أن شظايا الجرانيت والبازلت المتناثرة أثناء النحت قد أصابت أسنانه وعينيه، وقد أجرى له الدكتور "على المفتى" عملية ناجحة فى عينيه، ولكن عندما أجرى عملية جراحية أخرى لعينيه عام 1995 فى ألمانيا تدهور بصره بصورة حادة، وكنا نراه دائما بالجلابية وهو يحضر افتتاح المعارض والندوات وإيتيليه القاهرة وجمعية محبى الفنون الجميلة، وأصبح بيته المتواضع فى مصر القديمة دائما مزارًا للفنانين الكبار ورجال السياسة وقادة الحركة الوطنية والسياسية والفنية، الذين رأوا فيه رمزًا وطنيا فذا للروح المصرية بكل طموحاتها وإصرارها وإرادتها وتشوقها لوطن حر عادل وجميل.
كان "قاهر الصوان" يقول دائما عن نفسه إنه اختار لنحت الحجر الصلب، لأنه يعيش أبد الدهر وأن صعوبة الحجر علمته الاحتراس والحذر والصبر وقوة الاحتمال وعدم التسرع وحب الخلود، وبالرغم من قتله فقد خلدته ذاكرة الوطن دائما بعد أن فى الرابعة صباحاً من يوم 5 / 7 / 2004 قتله اثنان من اللصوص البلطجية، هما الشقيقان "كريم وياسر محمد".. قتلاه بهدف السرقة فقد ظنا أن "قاهر الصوان" من الأثرياء بما أشيع عن حيازته تماثيل أثرية نادرة ووجه اللصين القاتلين إلى عبد البديع" 14 طعنة أثناء نومه لم يجدا لديه سوى 63 جنيها كانت كل ما حصلا عليه.
وإذا كان "قاهر الحجر" قد مات جسدا لكنه "بقى حيا فى ذاكرة الوطن ليس بكل تماثيله التى نحتها من الحجر فحسب، بل فيما قدمه للنحت المصرى من أبنائه وأحفاده المنحدرين من صلبه فقدم للوطن ابنه "شريف" ذلك النحات الموهوب الحاصل على بكالوريوس الفنون الجميلة من جامعة حلوان، عام 1981 والذى بدأ ابنه "حفيد عبد البديع" فى نحت التماثيل سائرا على درب جده، وكل جدودنا من النحاتين المصريين العظام كما لو كان قهر ونحت الحجر الصوان هو كل ميراث المصريين أبا عن جد عن كل الجدود الذين نحتوا التماثيل والمسلات الفارهة من الجرانيت، حيث كانت المسلة تنحت من كتلة صخرية واحدة حيث أحس النحات المصرى القديم دائما بالجمال الذى تمنحه له الكتلة الصخرية من الجمال والخلود فالكتلة جميلة فى حد ذاتها والحجر جميل فى حد ذاته والنحات المصرى مولع منذ الأزل بمحو تأثيرات الزمن على وجوه منحوتاته، ويمنحها بالأزميل فى يده كل الخلود المتاح كما يمنح الحجر كل الخلود المتاح للنحات الذى قهره وقد كان "عبد البديع عبد الحى" من أهم النحاتين المصريين الذين قهروا الحجر الصوان فى العصر الحديث، ليبقى حيا فى وجداننا وحيا فى ذاكرة الوطن بالرغم من قتله على أيدى اللصوص والقتلة.