مصطفى محمود عنوان لعصر كامل بكل تناقضاته وصراعاته وأسئلته، وإذا أراد شخص أن يتعرف على تقلبات السياسة والأفكار فى مصر والعالم العربى، عليه أن يتأمل مسيرة الراحل الدكتور مصطفى محمود، الذى جمع بين أشياء كثيرة تبدو من الظاهر متناقضة. لكنها تطرح حيرة المثقف الموسوعى، وعدم استقراره وهو يبحث عن الأسئلة أكثر مما يبحث عن إجابات. حتى بعد أن استقر على يقين يراه محطته الأخيرة، لم يتوقف عن التأمل والتفكير. ولهذا من الصعب تصنيفه بشكل مريح ضمن التيار السائد الذى يفضل اليقين المريح، ويكره الأسئلة، ولهذا كثيراً ما اختلف معه السلفيون وهاجموا ما سموه "شطحات"، صنفوا من خلالها الرجل بعيدا عن فصائلهم.
اشتهر الدكتور مصطفى محمود فى السبعينيات مع ظهور برنامجه الجماهيرى "العلم والإيمان"، الذى حاول فيه الجمع بين العلم والدين، وكان العلم هو عشقه الأول حتى آخر أيام حياته. قبلها كان قد عبر مسافات واسعة من الشك وانتقل منه إلى إيمان علمى حرص على أن يربط بينه وبين العقل، لكنه دون أن يتورط ككثيرين فى مهاجمة العلم والتجريب، الذى اعتبره أساس التقدم والنهضة.
فى الستينيات بدأ مصطفى محمود رحلة الشك الكبرى، وبالرغم من أن كثيرين نظروا إلى كتابه "الله والإنسان" على أنه كتاب إلحادى، لكنه كان تعبيرا عن رحلة الأسئلة الكبرى، التى قادته إلى ما وصفه بأنه يقين قائم على العقل، وليس فقط على الوراثة والتواكل.
كان كتاب مصطفى محمود "حوار مع صديقى الملحد"، هو أحد الكتب الأكثر شعبية فى السبعينيات، لأنه كان ذا أسلوب سهل وبسيط، يرضى قطاعاً كبيراً من الشباب كان يعيش الحيرة بين العقل والإيمان، ولهذا فقد قدم مصطفى محمود الكثير من الخيال فى كتابه استفاد فيه من موهبته القصصية والروائية.
قبلها فى روايته "العنكبوت" كان قد طرح أفكاراً عن الاستبصار والحياة والموت والخيال، ونفس الأمر فى المستحيل أثناء عبوره لمرحلة الأسئلة، إلى مرحلة أخرى كانت الأسئلة فيها تبحث عن أجوبة أخرى. ولم يتوقف مصطفى محمود عن إعلان احترام العقل والتجريب على عكس كثيرين ممن امتهنوا سبوبة الإعجاز العلمى للأديان. والدليل على أن مصطفى محمود كان يحترم العقل أنه أنشأ فى مركزه الطبى مرصداً فلكياً ومتحفاً جيولوجياً وآخر للبيولوجيا.
وكانت خطة إنشاء جمعية مصطفى محمود ومستشفاه الشهير فى المهندسين هى الخطوة الأكثر إنسانية لدى الراحل، لأنه حاول أن يستغل أموال التبرعات فى إقامة مستشفى ضخم يفيد الفقراء وألحق به مراكز للأبحاث والعلوم.
لقد صبغ عشقه للعلم طريقه الدينى بنوع من العقلانية سببت له مشاكل كثيرة مع التيارات الدينية التى اعتبره بعض أعضائها رجلاً يغرد خارج السرب، خاصة مع حرصه على شرح النظريات العلمية الكبرى مثل النسبية والنشوء والارتقاء، وهى نظريات كان مجرد الاقتراب منها يدخل ضمن الشطحات. ومع ذلك دخل مصطفى محمود فى جدل واسع مع كثيرين عندما أطلق كتابه عن "الشفاعة"، والذى انتقد فيه الإيمان التواكلى الخالى من العقل.
مصطفى محمود لمع مع شعار الرئيس السادات عن دولة العلم والايمان، وارتبط مع الرئيس الراحل بعلاقة صداقة، وأعلن حزنه على اغتياله من تيار هو الذى أفسح له الطريق. ومن هنا كان مصطفى محمود يدعو إلى أنسنة العلم بالإيمان، وعقلنة الإيمان بالعلم. وهو سؤال لا يزال مطروحاً..
رحل مصطفى محمود رجل الأسئلة، وترك زمن التناقضات والصراعات والمخاوف والأسئلة الصعبة.