انتهت المنافسة بين مصر والجزائر للوصول إلى مونديال جنوب أفريقيا، وسيكون نصيب تلك المنافسة فى التاريخ، مجرد مباراة أحاطتها ظروف سيئة فى العلاقات بين البلدين، ظروف دفعت ذكريات التاريخ إلى التراجع للوراء، وجعلت آلام الحاضر تقفز إلى السطح جعلت بعض الإعلاميين فى الطرفين يختزلون الحياة والعلاقات التاريخية بين البلدين فى مجرد مباراة كرة قدم، وبدلا من استدعاء حكايات التاريخ المضيئة بين البلدين لنتحصن بها أمام هؤلاء، وقفنا وكأننا نبدأ من الصفر، فلنذهب إلى التاريخ الملىء بحكايات العون والمساعدة بين البلدين فى أوقات الشدة، والغائب عن الأجيال التى لم تعاصره، ربما يعرفون أن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا.
ومن هذه الحكايات ما رواه لى ضابط المخابرات المصرى فتحى الديب فى حوارات أجريتها معه، وكان الديب هو حلقة الوصل بين جمال عبد الناصر وثوار الجزائر الذين أطلقوا شرارة بدء الثورة ضد الاستعمار الفرنسى الذى احتل الجزائر 130 عاما، وهو الذى قدم الزعيم الجزائرى قائد الثورة الجزائرية إلى الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وفى زياراتى المتعددة له فى ضاحية مصر الجديدة قبل رحيله منذ سنوات، وكان يعيش فيها مع السيدة الفاضلة زوجته، أخبرنى أن الشقة المواجهة له هى شقة بن بيلا.
قال فتحى الديب تنوعت المساعدات المصرية للثورة الجزائرية ما بين السلاح والمال، وحتى الرجال، ولعبت المخابرات المصرية أعظم أدوارها على الإطلاق فى تهيئة كل السبل لانطلاق الثورة.. وأضاف، أن أول مرحلة فى خطة اندلاع الثورة الجزائرية، بدأت بعودة بن بيلا إلى القاهرة يوم 9 أكتوبر 1954 بعد اجتماع فى العاصمة السويسرية برن، حضره كل من مصطفى بن بو العبد وديدوش مراد وكريم بلقاس وبن مهيدى العربى، ومحمد بو ضياف، وبيطاط محمد وأحمد بن بيلا.
أبلغهم بن بيلا فى هذا الاجتماع، موافقة عبد الناصر على دعم كفاحهم مادياً وأدبياً، ووافقوا بالإجماع على خطة بدء الكفاح المسلح التى تمت مناقشتها فى القاهرة مع بن بيلا.. وتحدد لها ساعة الصفر 30 أكتوبر، وغادر بن بيلا القاهرة إلى ليبيا يوم 22 أكتوبر ليتابع عملية التنفيذ منها، وزوده الديب بمبلغ 5 آلاف جنيه لشراء كميات الأسلحة والذخيرة المتوفرة من السوق السوداء الليبية لمباشرة عملية التهريب فوراً لحين تزويدهم بالكميات اللازمة من مخازن الجيش المصرى، وتوالت المساعدات بعد ذلك لتشمل شحنات من البنادق والرشاشات وذخائر وأسلحة أخرى أدخلتها المخابرات المصرية إلى الجزائر عبر الحدود مع المغرب، وليبيا، ويحتوى كتاب فتحى الديب: "عبد الناصر وثورة الجزائر" على عشرات الوثائق التى تحمل توقيعات تسلم هذه الأسلحة التى قدمتها مصر إلى جيش التحرير الجزائرى دون مقابل.
لم يكن السلاح وحده هو العون والمدد الذى قدمته مصر، بل قدمت شهداء ربما لا تحوى الكتب عنهم شيئاً، ومن القصص التى رواها لى الديب بتأثر بالغ قصة الصحفى إلهامى بدر الدين الذى استشهد على أرض الجزائر وعمره 23 عاما فقط.
قال الديب: دخل إلهامى الصحافة من أبوابها العنيفة.. كان فى بدايات عمله.. مقداماً فى اندفاعه.. لا يخاف الموت ويحدوه الأمل فى أن يكون صحفياً كبيراً من خلال معايشته للثورة الجزائرية.. فطلب منى التوجه إلى هناك، وأعطيته الإذن بذلك مع تقديم جميع التسهيلات له، ونزل بالفعل فى منطقة وهران، وظل فيها ثلاثة أشهر، وطلب بعدها أن يدخل إلى منطقة القبائل، وكان يقودها كريم بلقاس.. وبعد 15 يوما من وجوده فى هذه المنطقة، وكانت شديدة الحساسية، وفيها قتال ضار مع الفرنسيين استشهد إلهامى مع مئات من الجزائريين ودفن هناك، ولما تلقيت خبر استشهاده أبلغت الرئيس جمال عبد الناصر فأوصانى بالبحث عن طريقة لإبلاغ أهله، ونقل جثمانه إلى القاهرة، ولما فشلنا فى نقل الجثمان اعتبرنا أنه استشهد فى أرض الله الواسعة بجانب أشقائه من الجزائريين، وتذكر الديب أنه حين تم إبلاغ أهله بالخبر تلقوه باحترام بالغ وألم فى الوقت نفسه، قائلين: نشهد أن لا إله إلا الله، ونحتسبه شهيدا عند الله".
فى المقابل لم تنس القيادة السياسية الجزائرية من بيلا إلى هوارى بومدين وحتى بوتفليقة أبدا هذه الوقفة من مصر ، فبعد نكسة 5 يونيه 1967 كان أول زعيم عربى يصل إلى مصر هو الرئيس الجزائرى هوارى بومدين الذى أبلغ عبد الناصر بوضع كل إمكانيات الجزائر تحت أمر مصر، وظل يلح فى الاستفسار من عبد الناصر عن الدور الغامض فيما حدث للعاهل الأردنى الراحل الملك حسين، وتواصلت المساعدات الجزائرية إلى مصر، وأنقل هنا رواية سمعتها من أسير مصرى لدى إسرائيل فى حرب 1967، وهو من قريتى وقريب لى، قال، والعهدة عليه فى الرواية، أنهم وبعد فترة من الأسر، حل عليهم أسير جزائرى وكان طيارا حربيا قدم فاصل من البطولة قبل أسره، وطلب منه الضباط الإسرائيليون تقديم نفسه وترديد هتاف: "يسقط جمال عبد الناصر"، لكنه وبعد ترديد اسمه محمد...، فاجأ الجميع بهتاف: "يعيش جمال عبد الناصر.. يعيش جمال عبد الناصر"، وبعدها سقط شهيدا برصاص الغدر الإسرائيلى.
تواصلت المساعدات الجزائرية لمصر وبلغت ذروتها فى حرب أكتوبر المجيدة، وتحفظ كتب التاريخ قصة سفر الرئيس الجزائرى هوارى بومدين إلى الاتحاد السوفيتى (سابقا)، لشراء أسلحة لمصر، ودفع ثمنها للقيادة السوفيتية فى شيكات على بياض، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل شاركت الجزائر فى الحرب ب 3 آلاف جندى و50 طائرة، وما يقرب من 100 دبابة.
هذه الخلفية التاريخية تؤكد أن ما بين البلدين فى حصة التاريخ أكبر من مجرد مباراة، فعلى أرض مصر جاء جزائريون للدفاع عنها، وعلى أرض الجزائر استشهد مصريون من أجل حريتها واستقلالها، وهذا هو العناق الطبيعى، وليكن ما حدث من أجواء التنافس من أجل الوصول إلى المونديال فرصة لتذكير الأجيال بقصص التضحيات المتبادلة بين البلدين، فهذا أبقى وأنفع لحاضرنا.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة