رفعت عينى فوجدته أمامى مباشرة، أغلقت الكتاب، تنهدت طويلا وتأملته على مهل، قوى رغم تقدمه فى السن، يصر على الإمساك بوهج الحياة، لكنه انتبه وضبطنى.. شعرت بالحرج، أما هو فارتبك، فهو لا يعرفنى، ولكنى أعرفه جيدا رغم أننى لم أره فى حياتى، تبادلنا جملا قليلة كان دورها الوحيد هو إزالة لحظات الحرج والارتباك .. ثم صمتنا.
عندما وصل مترو الأنفاق إلى محطة التحرير نزلنا مع الآلاف .. تسمرت واقفا فى مكانى أشاهده وهو يذوب فى الزحام المتعجل.. وغبت فى ذكريات سنوات وسنوات مضت، سعادة، ألم، جوع، خوف، شجاعة، و...و...
اخترقت قلبى وعقلى كرصاصة جملة واحدة: هذا الرجل الذى لا يعرفنى غير مصير حياتى كلها.
منذ صيف 1984 قرأت إبداعات إبراهيم فتحى السياسية والتى بلورها فى نهاية الستينات من القرن الماضى.. وانقلبت حياتى.. فآمنت بإمكانية زرع الحق والعدل والحرية فى أرض الوطن.. تشربت أفكاره حتى النخاع ودفعت الثمن غاليا من أحلى سنوات عمرى.
كان هو نفسه قد هجر العمل السياسى بعد أن دفع ما لا طاقة لكثيرين أن يدفعوه .. وقرر التفرغ للترجمة والنقد الأدبى .. ليصير من ألمع من كتبوا فى هذين المجالين وأكثرهم تأثيرا.
صحيح أن الدنيا تغيرت، وأنا تغيرت.. لم تتغير الأهداف ولا الأحلام تغيرت الوسائل.. لم أكن مخطئا ولا هو مخطئ، بل كان فارسا نبيلا أراد منح الحياة للناس التى ذاب فى زحامهم .. وللأسف لا يعرفونه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة