◄تحولات مثيرة فى حياة الرفاهية.. والأسر العربية تبدأ فى الهجرة العكسية
◄مصريون استثمروا فى الأسهم وبعد انهيارها فقدوا مدخراتهم
«هل دبى سيرة وانفضت، وهل مضت أيام وليالى الأنس فيها إلى حال سبيلها».. يتساءل إيهاب الموظف المصرى فى إحدى شركات التمويل العقارى فى الإمارة، فهو يعيش هناك منذ 10 سنوات تقريبا، جاء إليها مثل غيره من آلاف الشباب حاملا أحلامه البسيطة فى حصد بعض المال والعودة سريعا إلى وطنه، إلا أن نمط الحياة العصرية والناعمة أغرته على العيش طوال تلك الفترة، فكل شىء ميسر وسهل والرفاهية بلا حدود.
دبى باتت مدينة الأبراج الشاهقة ومراكز التسوق الفخمة والفنادق والمنتجعات والجزر البحرية والمهرجانات والمؤتمرات العالمية، وعجلة البناء فيها لم تتوقف، فتدفق إليها آلاف وملايين الطامحين من العمال والموظفين لتحقيق حلم الثروة، فالإمارة التى يبلغ عدد سكانها مليونا ونصف المليون نسمة، ويتراوح عدد المواطنين الإماراتيين منهم ما بين 150 و200 ألف مواطن فقط، تستحوذ على العدد الأكبر من المنشآت العاملة فى دولة الإمارات، خاصة العاملة فى مجال المقاولات والإنشاءات ويعمل بها العدد الأكبر من العمالة الأجنبية فى الدولة والتى يبلغ عددها 4 ملايين عامل، وحسب الخبراء فى مجال المقاولات والعقارات، فإن حجم الاستثمارات الداخلية والخارجية فى مجال العقارات فى الإمارة يتجاوز 80 مليار دولار.
دبى التى لا تتجاوز مساحتها 5 آلاف كيلومتر مربع من إجمالى مساحة الإمارات -حوالى 88 ألف كيلومتر مربع- حققت فى السنوات العشر الأخيرة ما لم تحققه دول كثيرة وأصبحت الأسرع والأعلى نموا فى العالم، ولا يطالع أى قارئ صحفها المحلية أو المتتبع لوسائل إعلامها إلا وكانت صيغة أفعل التفضيل هى الملاصقة لكل ما تبنيه وتقيمه على أرضها، فهى تبنى أعلى برج وتطلق أول مترو بدون سائق فى العالم، وتنشئ أكبر جزيرة بحرية، فهى الأول والأكبر والأعلى والأضخم ولا ترضى بديلا عن المركز الأول فى سباق البناء، كما يردد دائما حاكمها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم.
كل من عاش فى دبى خلال تلك السنوات يفاجأ كل يوم تقريبا ببناء جديد أو مشروع يتم الإعلان عنه، حتى باتت مقصدا للاستثمار من شتى أنحاء العالم، وربما كانت أكثر المدن العربية استفادة من أحداث سبتمبر 2001 حيث تدفقت عليها الأموال العربية المهاجرة فى الخارج، وانتعشت سوق المال والعقار فيها بشكل غير مسبوق، حتى إن هوجة الأسهم لم تشجع كبار المستثمرين فقط، وإنما دفعت بصغار المستثمرين من قليلى الخبرة بالأسهم بالشراء بكل ما يملكون من مدخرات صغيرة، ولم يكن أحد يعلم ما سوف يحدث من انهيار فى السوق، ويخسر المستثمرون خاصة من الصغار كل شىء.
من هؤلاء حامد سعد.. الذى يعمل فى إحدى شركات الدعاية والإعلان دفعته قلة خبرته إلى الاستثمار فى سوق دبى للأسهم، وشراء أسهم من إحدى شركات العقار الحكومية المعروفة بسعر 5،29 درهم للسهم الواحد ولكن بعد الأزمة المالية الأخيرة انهار السهم حتى وصل دون الـ3 دراهم. ومازال حامد يأمل فى صعود سعر السهم لبيعه وتعويض خسائره واستعادة مدخراته التى تبددت وذهبت مع ريح الأزمة المالية التى ضربت دبى بعنف.
إيهاب أيضا ينتظر مصيرا غير آمن الآن مثل عدد كبير من الموظفين المصريين وغيرهم بعد أن تم الإعلان عن دمج شركته مع شركات أخرى ترشيدا للنفقات، ويستدعى ذلك بالطبع التخلص من عدد كبير من موظفى الشركة، ويقدر عدد المصريين فى الإمارات إجمالا بنحو 350 ألف شخص. حامد وإيهاب نموذجان لتبدل حياة الرفاهية فى دبى فى الوقت الراهن، مثل حال باقى الأسر، خاصة العربية منها، فارتفاع الأسعار وحالة الغلاء التى سيطرت على جميع القطاعات فى السكن والتعليم والعلاج والغذاء، أدى بغالبية تلك الأسر إلى إعلان حالة التقشف، فالتنزه والتسوق والشراء بلا حساب كان هو الحال قبل 3 أو 4 سنوات وانعكس ذلك على الأسواق، فالذى يرتاد أماكن التسوق يمكنه ببساطة ملاحظة انخفاض أعداد المتسوقين والسبب «الحالة الاقتصادية الراهنة» وهو السبب الذى لم يخطر على بال أحد فى دبى، فالأزمات «لا تمر من هنا أبدا» والصحافة المحلية تؤكد ذلك سواء بتعليمات أو بتوجيهات، فدبى دائما «بعيدة عن الأزمات، واقتصادها لا يتأثر ومعارضها ومؤتمراتها وندواتها مستمرة وتحقق النمو» رغم ما يرد فى الصحافة الغربية بل والعربية.
ويقول مسئولون فى الإمارة إن حملة شرسة تتعرض لها دبى فى وسائل الإعلام الغربية وللأسف فى بعض الصحف العربية فى دول قريبة، وكأن الإمارة هى الوحيدة التى تأثرت بالأزمة وليس اقتصادات دول وكأننا كنا السبب فيها، فوسائل إعلام غربية رأت أن دبى تحولت إلى مدينة أشباح بعد أن هجرها الناس وتبخرت الأحلام بالثراء والرفاهية والباقى يحزم حقائبه للرحيل من شواطئ الرخاء، وبعض الصحف العربية كتبت بشماتة عن «البالونة الاقتصادية التى انفجرت».
مسئولو الإمارة يبررون الهجمة «بالنجاح الذى حققته الإمارة وصار مبعثا على حسد دبى من القريب والبعيد، وباتت نموذجا عربيا ناجحا يقلق صانعى القرار فى الغرب، فهم لا يريدون أى نجاح لتجربة عربية حتى لوكانت فى حجم إمارة صغيرة مثل دبى».
لكن موناكو الشرق ودانة الدنيا تتبدل الحياة فيها الآن، فالأزمة تلاحق قطاعات كبيرة فيها، والإضرابات والتظاهرات العمالية فى سنوات الأزمة الأخيرة كانت خير شاهد على عجز الشركات عن سداد الأجور والرواتب رغم جهود الحكومة بوقف تلك الظاهرة وإرغام الشركات على السداد، وهو ما اضطرت معه الأخيرة إلى «تفنيش» أو التخلص من آلاف العمال، خاصة الآسيوية منها، والتى تشكل نحو 90 بالمائة من إجمالى العمالة الأجنبية، بل امتد الأمر إلى المهندسين والاستشاريين، فالشركات استقدمت العمالة لمشاريع مستقبلية أو افتراضية لسنوات قادمة دون حساب لأزمة وعندما حدث ما لم يتوقعه أصحاب تلك الشركات توقفت المشاريع وبدأ التخلص من العمالة، والعمل الدائر الآن هو لمشاريع تم تخصيص اعتماداتها المالية قبل الأزمة المالية، فقد تم تعليق باقى المشاريع الضخمة الأخرى حتى إشعار آخر.
ولأول مرة فى دولة أو مدينة خليجية ومع تداعيات الأزمة يبدأ الحديث والكشف عن حالات «فساد»، وتداولت بعض الصحف المحلية فى دبى فى الآونة الأخيرة أنباء التحفظ على مسئولين فى شركات عقارية حكومية كبرى تقاضوا عمولات قدرت بحوالى 250 مليون درهم، وكشفت التحقيقات أن عددا كبيرا من العاملين فى تلك الشركات كان يتقاضى رواتب خيالية تتراواح بين 500 و750 ألف درهم، فالأزمة كشفت عن غياب تام للرقابة والمحاسبة، وحالة الرفاهية السابقة منحت الفرصة للبعض بالثراء الفاحش دون معرفة مصدر تلك الأموال، ويدور حديث الآن بين الناس عن ضرورة وجود قوانين رادعة مثل «من أين لك هذا»، واقترح قائد شرطة دبى ضرورة وجود مثل تلك القوانين، وهو الذى كشف عن أن أكثر من 70 من قضايا الشيكات المسجلة لدى شرطة دبى تتعلق بشيكات عقارية..! فدبى قد وضعت غالبية استثماراتها فى العقارات وبشكل خاص لذوى الدخول العالية الذين اندفعوا لشراء الفيلل والشقق الفخمة فى كل مكان، وقامت شركات التمويل بتشجيعهم وتحفيزهم على الشراء مقابل تمويل عمليات الشراء، وتعانى تلك الشركات الآن من فرار عدد كبير من المشترين إلى بلدانهم، خاصة من الإيرانيين والروس والباكستانيين.
وإزاء تلك الأزمة التى بدأت ملامحها فعليا فى دبى فى بداية العام قبل الماضى قررت المؤسسات والحكومية والشركات التوقف عن منح موظفيها «البونص» السنوى أو الحوافز وشكل ذلك «كارثة اقتصادية» على الموظفين الذين راهنوا فى أحلامهم وبناء مستقبلهم على القروض البنكية وسدادها من تلك الحوافز.
ولم يجد آلاف من العاملين خاصة من المصريين مفرا أمامهم سوى الاتجاه إلى ترحيل أسرهم والعيش فى سكن العزاب تخفيضا للنفقات وتحسبا للأسوأ، فيما تقوم البنوك الآن بملاحقتهم لسداد القروض التى توقف عدد كبير منهم عن سدادها.
الهجرة العكسية لأسر العاملين فى دبى تترجمها أرقام رسمية لافتة، فمجتمع دبى أصبح 70 بالمائة منه من الذكور، أى تحول إلى مجتمع ذكورى نظرا لغلبة العنصر الذكورى من العمال والموظفين، وهو ما يعكس قلقا أمنيا واجتماعيا، فقد بدت مؤخرا أنواع غريبة من الجرائم فى دبى لم تكن منتشرة من قبل مثل السطو المسلح والقتل، وهى الجرائم التى تشكل من المنظور الأمنى قلقا للأمن العام.
الهجرة العكسية أيضا، خاصة للأسر العربية بدت تهدد العلاقات الاجتماعية والتواصل الاجتماعى وتهدد الثقافة العربية فى مجتمع من المفترض أنه عربى وإسلامى والعرب فيه هم العمق الاستراتيجى، بسبب قلة عدد سكان الدولة البالغ عددهم وفق آخر إحصاء 1.6 مليون نسمة، منهم نحو 5 ملايين «وافد» أو أجنبى غالبيتهم من الجنسيات الآسيوية، ويزعج ذلك المعنيين بالأمر لأنه يعتبر خللا فى التركيبة السكانية وخطرا شديدا عليها، على الرغم من وجود دراسات رسمية أوصت بالتجنيس النوعى للعرب لإحداث نوع من التوازن مع الجنسيات الآسيوية.
فهل تضطر دبى الآن مرغمة إلى دفع فاتورة نجاحها السريع فى السنوات القليلة الماضية وتسديد استحقاقات إنجازاتها؟
بعض الآراء ترى أنه على دبى أن تدفع فاتورة «غرورها» وحلمها الذى انطلق دون حساب وبشكل لم يتوافق مع إمكاناتها وواقع مواردها، وتعثر شركة دبى القابضة المملوكة للحكومة هو الشاهد والملمح الأكبر فى نهاية «قصة دبى» فالديون متراكمة وتقدر إجمالا بنحو 100 مليار دولار والأزمة شديدة والإمارة الأقوى أبوظبى لن تستمر فى كل الأحوال فى الدفع والسداد، فقد أغدقت فى المرة الأولى بعشرين مليار درهم لإنقاذ المصارف من عثرتها، ولكن هذه المرة الأزمة أشد والشركات العالمية تضغط وتطالب بحقوقها فى ظل أزمة عاتية وعملا بالمثل القائل «التاجر المفلس يفتش فى دفاتره القديمة» والدفاتر هنا هى مستحقاتها لدى دبى نظير المشاريع العملاقة التى نفذتها فى الإمارة، إلى جانب المشاريع الملغاة والمعلقة، ومع ذلك لن تسمح أبوظبى أن تنهار دبى، فهى الإمارة الأكبر والأغنى والراعية لدولة الاتحاد التى تحتفل هذه الأيام بذكرى مرور 38 عاما على تأسيسها.
الكل ينتظر كيف ستنهض دبى من أزمتها ويتمنى أن تعبرها بسلام لأنها نموذج عربى مازال فريدا فى النجاح، رغم وجود أصوات وآراء «شامتة» فى الأزمة ومحاولة استعارة تفسيرات عدة بما فيها الدينى وإسقاطها على أزمة ديون دبى.
لمعلوماتك...
◄ 95% نسبة مساهمة قطاعى السياحة والعقارات لدبى فى الناتج المحلى الإماراتى
◄ 1833 انفصلت دبى عن أبو ظبى ولجأت إلى الحماية البريطانية
عادل السنهورى
عادل السنهورى يكتب.. هل انتهت أيام و«ليالى الأنس» فى موناكو العرب؟
الخميس، 10 ديسمبر 2009 08:20 م
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة