أستاذ الجامعة الذى أفنى عمره فى البحث والتأمل، أو المثقف الذى أُجهدت عيناه من القراءة فى التاريخ والأدب والعلم والدين والسياسة لكى يفهم ما يدور حوله، سيجد نفسه غريباً وهو يطالع الصحف أو يشاهد برامج الديوك فى مصر، لأن النظام قرر أن يستغنى عن النخبة التقليدية التى تعمل على نار هادئة، لصالح نخبة جديدة تم اختيارها بعناية لتصبح قادرة على تمييع أى هدف، ولإيهام الرأى العام أن الديمقراطية «شادة حيلها» فى البلد، وأنه توجد معارضة فى الفضاء والصحف المستقلة، وساهم رجال الأعمال الذين بنوا ثرواتهم من بيع القطاع العام أو من الأرض التى منحت لهم بملاليم فى لعب دور «الكفيل» لعدد لا يستهان به من قادة الإعلام «المستقل»، لكى يظل الوضع على ما هو عليه، وأصبح كل من له «كفيل» من السلطة أو من رجال الأعمال قادرا على النفاذ إلى وجدان الناس المحاصرين فى البيوت والشوارع والعمل، وبات المعارضون المستقلون يحققون مكاسب تفوق ما يتحصل عليه كتاب الحكومة التقليديون، مرة باسم القومية العربية، ومرات باسم الليبرالية، الطرفان يختلفان على صفحات الجرائد وفى التليفزيون، ولكنهم فى آخر الليل يسهرون معاً للاتفاق على طرق جديدة لتضليل الناس، الحكوميون مع الخصخصة وبيع القطاع العام وإلغاء الدعم «ولهم حصة كبيرة فى الإعلانات»، ولا يعتبرون إسرائيل عدواً، ولا يذكرونها إلا إذا كانت هناك مشاكل، والمستقلون ديمقراطيون جداً، ويؤمنون بآرائهم لدرجة مخيفة، وقادرون على دغدغة مشاعر الناس المحاصرة، وهم بالطبع لا يعترضون على الخصخصة، ولا قانون التأمين الصحى المرتقب، وتوقفوا عن معاملة إسرائيل كعدو، لأن الكفيل يتعامل معها، والذين كانوا يحاربون الفكر الوهابى فى الماضى توقفوا، لأن الفضائيات النفطية استخدمتهم عندها، لكى يحل صوت الحذيفى محل صوت الشيخ مصطفى إسماعيل ومحمد رفعت، ولكى يحتكر الوليد بن طلال صناعة الغناء على حساب الذوق المصرى، لقد نجحت النخبة الجديدة - التى تبدو أحياناً متعارضة - فى رسم مشهد مجازى لما يحدث فى مصر، والنظام سعيد، لأنه مازال فى السلطة ولا يوجد من يهدده، فى الوقت الذى توجد فيه مصر أخرى، بعيدة عن إعلام أنس الفقى السطحى، وإعلام رجال الأعمال المبتز، مصر مبدعة فى الأدب والعمارة والمسرح والفن التشكيلى، يوجد أشخاص رائعون، سيذكرهم التاريخ بإجلال، لأنهم ينتجون شيئاً ذا قيمة فى الظل، وفى ظروف لا تشجع على الإبداع والارتجال، أشخاص محاصرون ولا يريد أحد الطرفين أن يتعرف الناس عليهم، لأنهم يذكرونهم بالصدق الذى يفتقده الإعلام الرسمى والمستقل، الإعلام الذى - فى لحظة غضب سريالى - اختطف فيه لاعبو الكرة السابقون، فكرة الوطنية، تماماً كما اختطف أسامة بن لادن روح الإسلام السمحة، وكل هذا لأن النخبة الحقيقية التى تنتج فى الظل، وتعرف حدود مصر ومكانها ومكانتها وإمكانياتها وتحلم بنهضتها.. محاصرة بأوامر عليا.