من المؤكد أن أحمد عز، الرجل الحديدى، قد ساهم بعنف فى حالة التداخل الشديد بين الحزب والدولة واحتكار الحزب الوطنى للمشهد السياسى المصرى كله، وكما احتكر أحمد عز حديد التسليح فقد سعى من اللحظات الأولى لجلوسه على مقعد كمال الشاذلى القديم إلى احتكار السلطة التنظيمية داخل الحزب، وكما يرى المراقبون القريبون من الحزب الوطنى أن أحمد عز قد استطاع أن يحدث انفجارا داخليا فى كافة المحافظات شمل الوحدات والأقسام والمراكز ولجان المحافظات، حيث فرض أعوانه واحتكر الحزب لنفسه.
وكما يقولون فإنه "بالرغم من أن الأمر أحدث انزعاجا كبيرا لدى السلطة السياسية، إلا أن الواضح حتى الآن أن المهندس أحمد عز سيبقى فى موقعه كأمين للتنظيم، بل إنه يروج فى الوقت الراهن أنه مرشح لرئاسة مجلس الوزراء خلال الفترة القادمة، ويقول بعض المراقبين الأقرب لقيادات الحزب الوطنى "إن أحمد عز يستخدم أسماء بعض كبار المسئولين، بل ويتعمد استخدام اسم جمال مبارك كثيرا فى محاولة منه للتأكيد على أن جمال مبارك هو صاحب كارت التوصية الذى يحمله فى جيبه، وإن جمال هو داعمه المهم وسنده الأهم وسر قوته".
غير أن الصمت على هذه الادعاءات يجعل الآخرين يصدقونها، وبالرغم من هذا، كما يقول نفس المراقبين، فقد أصبح أحمد عز رجلا مرفوضا فى كافة دوائر الحزب الحاكم، بل وفى الدوائر الشعبية والسياسية بطريقة مثيرة للدهشة، غير أنه يبقى جاثما على أنفاس الحزب رغم أنف الجميع بربطهم به بالمصالح المشتركة، فالمصلحة بالنسبة لقيادات الحزب الوطنى دائما تأتى فى المقام الأول قبل اعتبارات العمل الوطنى والحب أو المشاعر كلها، وبالرغم من هذه السيطرة الحزبية لأحمد عز فهل يبدو الخلاص منه قريبا وبالذات فى مرحلة التوريث الفعلى للسلطة؟ وهل يبدأ أحمد عز من الآن تأليف أغنيته "الوطنية" الخاصة "مبروك يا مصر وتستاهلى/ هز الهلال بإيدك هز/ إنت زعيمنا يا أحمد عز" كما غناها قبل ذلك كمال الشاذلى؟ أم أن أحمد عز قد استفاد من تجربة كمال الشاذلى بحيث لا يتم التخلص منه بركله إلى تابوت مقبرة المجالس القومية المتخصصة أو أى تابوت آخر قد يفصله له جمال مبارك نفسه على مقاسه، بعد أن يكون قد استنفذ أغراضه المرحلية؟ أم أن أحمد عز سوف يأكل جمال مبارك داخل التشكيلات الحزبية قبل أن يأكله؟
قد يبدو السؤال الأخير خياليا وغير متسق مع وضع جمال مبارك بصفته الوريث الوحيد للسلطة حتى الآن، كما أن هذا السؤال يبدو أيضا غير متسق مع بعض التحليلات السياسية فى هذه المرحلة، كما أنه قد يبدو سؤالا غبيا نتيجة تمكن فكرة التوريث من عقلية المعارضة المصرية التى فشلت فشلا ذريعا فى التعامل السياسى اللازم مع فكرة التوريث فى حد ذاتها ولم تواجهها سياسيا على أرض الواقع واكتفت بالصراخ والعويل ليل نهار حتى مل الناس من صراخها، وبدأ البعض فى تقبل فكرة التوريث كنوع من الخلاص من هذا العويل اليومى.
فى الثورة البلشفية الروسية وأثناء حكم لينين وهو على رأس الحزب الشيوعى السوفيتى ورئيسا للحزب كان يوسف الحديدى، أى جوزيف ستالين هو أمين التنظيم فى الحزب الشيوعى السوفيتى الذى يقبض على كل تشكيلات الحزب بيد من حديد ولم يكن "ستالين" هو أهم القادة بعد لينين فقد كان هناك قادة أهم منه يمكن لأى منهم أن يكون هو الوريث الحقيقى القوى للسلطة بعد لينين لكن ستالين كان قد أحكم قبضته على تشكيلات الحزب الشيوعى، حيث أتت به هذه القواعد الحزبية للسلطة بعد لينين بحيث استطاع ستالين بعد وصوله للسلطة من التخلص من كل منافسيه، فهل يمكن لأمين تنظيم الحزب الوطنى المصرى الحديدى أن يسير فى نفس الطريق ويحسم الأمر بتسلمه السلطة الفعلية بواسطة التشكيلات الحزبية التى أحكم قبضته عليها؟
قد يبدو الأمر مغرقا فى الخيال، وهو كذلك فعلا فى حالة أن يكون الحزب الوطنى على نفس صورته الحالية، وبنفس القدر من الإغراق فى الخيال يحلم جمال مبارك بتفعيل حقيقى للحزب الوطنى ظنا منه أن الحزب سوف يكون أداته الحقيقية فى الحكم بعد تسلمه السلطة، لكن مع تفعيل دور الحزب الذى يسعى إليه جمال مبارك تفعيلا حقيقيا لا يمكن ضمان ولاء التشكيلات الحزبية لجمال مبارك، بل سوف يكون ولاؤها لمن يقبض على أرواح ومستقبل أعضائها بشكل مباشر وهو أمين التنظيم الحديدى، نحن لا نتحدث عن الحزب الوطنى بوضعه الحالى بل نتحدث عن الحزب الوطنى بعد تفعيله وتداخله فى السلطة فعليا لا شكليا فقط، ومن يقرأ عن المهمة التى تحتكرها أمانة التنظيم سوف يكتشف مدى خطورتها، فأمانة التنظيم فى الحزب الوطنى التى يرأسها ويحكم قبضته عليها الرجل الحديدى، وكما يقول واحد من كتاب الحزب الوطنى فإن أمانة التنظيم فى الحزب الوطنى "تتولى إدارة كافة الجوانب التنظيمية للحزب بما فى ذلك الإشراف على الوحدات الحزبية وعلى لجان وهيئات مكاتب الأقسام والمراكز والمحافظات ومتابعة أدائها لمهامها والتزامها بالانضباط الحزبى، وتتولى أمانة التنظيم وضع قاعدة بيانات للقيادات التنظيمية وخطط تصعيد تلك القيادات، وتقوم أمانة التنظيم بالإشراف اليومى على أداء أمناء المحافظات وعمل اللجنة البرلمانية والتنسيق بين الأمانة العامة والهيئة البرلمانية للحزب، والإشراف على تنفيذ أساليب العمل الخاصة باختيار مرشحى الحزب لخوض انتخابات مجلسى الشعب والشورى والمجالس الشعبية المحلية والأساليب الخاصة باختيار أعضاء لجان وهيئات مكاتب الحزب حتى مستوى المحافظة".
والسؤال: ماذا لو تم فعلا تفعيل الحزب الوطنى كأداة وحيدة للسلطة ويكون دور أمانة التنظيم دورا فاعلا بالفعل؟ ولو حاولنا الإجابة على هذا السؤال سوف نكتشف خطورة أحلام جمال مبارك على جمال مبارك نفسه، لذلك فلن يتم أى تفعيل للحزب الوطنى على الأقل فى مرحلة ما قبل التوريث، فالحزب الوطنى الذى أسسه الرئيس الراحل أنور السادات مستعينا بتركيبة البناء التنظيمى للحزب الديمقراطى المسيحى فى ألمانيا من حيث الشكل على الأكثر، يبقى الحزب الوطنى هو امتداد الحزب الواحد الذى يحكم مصر صوريا على الأقل منذ أكثر من نصف قرن وهو مقبل على يد جمال مبارك على تحدٍ خطير بمحاولات جادة من جمال مبارك لتفعيل دور الحزب الوطنى تفعيلا حقيقيا، وليس مجرد ديكور للديمقراطية، لأن أى تفعيل للحزب الوطنى فى المجال السياسى والسلطة الفعلية فى الفترة القادمة سوف يلجأ إليه جمال مبارك بصفته الرئيس القادم سوف يعنى إعطاء دور أكبر لهذا الحزب داخل تركيبة مؤسسات النظام الحاكم، حيث إنه فى هذا السياق تدور المحاولات الجادة لتطوير التنظيم فى الحزب الوطنى الحاكم فى مصر، وسوف يخلق هذا الوضع حالة غير مسبوقة فى بنية النظام الحاكم نفسه، فسوف يحدث تداخلا غير مسبوق بين الحزب الوطنى والدولة، وبالتأكيد سوف يؤدى هذا التداخل إلى احتكار الحزب الوطنى للمشهد السياسى المصرى، وبالتالى سوف تكون المواجهة بين الحزب الوطنى كسلطة حقيقية للدولة من جهة وبين المعارضة من جهة أخرى، وليس بين الحكومة والمعارضة، وبعد أن كان الحزب هو صدادة الحكومة ضد هجمات المعارضة سوف تتحول الحكومة إلى مجرد صدادة للحزب، وبمراجعة سريعة للبنية التنظيمية للحزب الوطنى سوف نجد أن البناء التنظيمى للحزب الوطنى يتشكل من أربعة تشكيلات حزبية تشكل أربعة مستويات هرمية تبدأ من أسفل بالمستوى الأول القاعدى وهو "مستوى الوحدة الحزبية" يأتى فوقه المستوى الثانى وهو "مستوى القسم/ المركز" ويعلوه المستوى الثالث وهو "مستوى المحافظة"، ثم يأتى أخيرا فوقهم المستوى الرابع وهو "المستوى المركزى"، فيما يكون قمة الهرم هو "رئيس الحزب" الذى هو قمة الهرم التنظيمى، وقد تشكل الحزب الوطنى من المستوى الأعلى أولا ثم المستوى المركزى إلى أن يهبط للمستوى القاعدى، أى أنه حزب فوقى تشكلت مستوياته العليا قبل تشكل المستويات القاعدية، لذلك فإن الحزب الوطنى لم تكن له أية فاعلية سياسية حقيقية فى الحكم وظل بعيدا عن المشاركة الفعلية فى السلطة فالرئيس مبارك، كما يقول كاتب الحزب الوطنى "لم يتعود التدخل فى العمل اليومى للحزب، إنما كان دائما ما يفوض ذلك للأمين العام وللأمانة العامة فى أغلب الأوقات، وتتشكل الأمانة العام من 25 عضوا، 12 منهم مسميين، ويتولون إدارة الأمانات النوعية مثل أمانة التنظيم، العمال، الشباب، السياسات، الخ. وهناك المكتب السياسى الذى يعد مجلساً للحكماء ويضم فى عضويته رئيس الوزراء، ورئيسى مجلسى الشعب والشورى، والأمين العام، بالإضافة إلى ثمانية أعضاء يختارهم رئيس الحزب، ولكن الأمانة العامة تتحكم فى تعيين معظم تشكيلات الحزب، بينما يختار المكتب السياسى أمناء المحافظات والأمانة العامة والمكتب السياسى يشتركان فى اختيار مرشحى الحزب فى انتخابات مجلسى الشعب والشورى.
أى أن رئيس الحزب هو الذى يتحكم فى تعيين الأمانة العامة والمكتب السياسى وبصفته رئيس الجمهورية فهو يتحكم فى كل السلطات الحزبية وغير الحزبية، ويحكم قبضته على كل آليات الحكم والسياسة فى الدولة، أما مع تفعيل دور تشكيلات الحزب الوطنى تفعيلا حقيقيا فسوف يكون الأمر على غير هذا الشكل، فسوف يتداخل الحزب تداخلا فعليا فى الحكم والسلطة، وبالتالى سوف يكون دور التشكيلات القاعدية مختلفا، فمع تفعيل دورها سوف تأتى هى بالمستويات الأعلى بالانتخاب الحر، أى أن المستويات القاعدية هى التى سوف تأتى بالأمانة العامة والمكتب السياسى، بل وسوف تأتى المستويات القاعدية برئيس الحزب نفسه الذى هو سوف يكون رئيس الجمهورية، وهذا هو ما يسعى إليه جمال مبارك من تفعيل الحزب الوطنى تفعيلا حقيقيا، وهنا مكمن الخطورة على جمال مبارك نفسه، فلا يستطيع أى أحد أن يضمن ولاء المستويات القاعدية لأى حزب مهما كان إذا كان يمارس الحرية الحقيقية فى اختياراته للمستويات العليا التى سوف تحكمه، وهنا، وبالنسبة للحزب الوطنى إذا ما تم تفعيله بشكل حقيقى وبدأت مستويات الحزب الدنيا تمارس اختياراتها بحرية حقيقية فسوف تتغير آليات العمل التنظيمى للحزب الحاكم، وسوف تدخل فى صراع حقيقى مع البنية المركزية لنظام الحكم المركزى فى الدولة المصرية، وبمعنى آخر سوف تتداخل وتتعارض السلطات الحزبية بعد تفعيل دور الحزب مع سلطات الدولة نفسها، فمثلا سوف يكون لأمين المحافظة دورا أكثر أهمية من دور المحافظ فى المحافظة كما تتداخل الآن سلطات أمانة السياسات مع سلطات رئيس الوزراء والوزراء، وسوف يكون لأمين شباب المحافظة سلطات فى محافظته مثلا أعلى من دور وزير الشباب نفسه، ولذلك فإن أى محاولة جادة وفعلية لتفعيل دور الحزب الحاكم سوف تتجاوز كثيرا الدور الذى يحلم لها به جمال مبارك، ولأنه أذكى من كل المحيطين به سواء كانوا من الحرس القديم أو الجديد، فسوف لا يتخذ فعليا أى محاولات جادة لتفعيل دور الحزب، ولذلك فإن الحزب الوطنى "الحاكم" سوف يظل محلك سر حتى وإن سخر نفسه لتنفيذ عملية التوريث، فالأضمن للجميع لاستمرار الحزب الوطنى فى الوجود هو أن يبقى جثة هامدة كما هو الآن حتى يستطيع الاستمرار فى تنفيذ الدور الذى تم إنشاؤه من أجله.