فى هذا العام الثقيل على القلب، لم تحدث انفراجة فى أى شىء كما وعدونا، ومع هذا كثرت الإعلانات والأكاذيب، وفى النهاية لم يفرق عن العام السابق، الوزراء كما هم، رؤساء تحرير الصحف كما هم، البرامج كما هى، الخناقات الجانبية كما هى، الذين يطالبون بالتغيير طالبوا بالتغيير، ولكن بحماس أقل، والذين دعوا للاستقرار يشعرون أخيرا أنهم استقروا، وبقى المشاهدون أمام التليفزيون يشاهدون أشخاصا يتحدثون بحماس منقطع النظير فى موضوعات تبدو حماسية، وتتجاذب الصحف أطراف الحديث حول الموضوعات نفسها، وفى النهاية لا أنت سعيد ولا هم نجحوا، فى الوقت الذى يحدث فيه شىء آخر بعيدا عن الجميع، شىء حقيقى أنجز بإخلاص فى مجالات شتى، فى الكتابة الروائية، فى السينما التسجيلية المستقلة، فى الفن التشكيلى، فى الشعر الحقيقى، فى نهاية كل عام أجمع الدواوين التى صدرت، وأجلس إليها فى شهر ديسمبر، قديما كنت أفرح إذا قرأت ثلاثة أو أربعة جيدين، لأنك تعرف أن الشعر الجميل طوال التاريخ قليل، ولكنى فى هذا العام وجدتنى أمام أكثر من خمسة عشر عملا رائعا على الأقل صدر فى مصر، وبالطبع لم تقع تحت يدى كل الأعمال، ولكنى سعدت لأن عاما ثقيلا على القلب أنقذه الشعر من الأكاذيب، وسعادتى زادت لأن ما أنجز ليس مقتصرا على جيل أو اتجاه واحد، فى الفصحى والعامية، فى التفعيلة والنثر، أعمال روضت الغضب بدون «زعيق» والتقطت حالات الوحدة بشجن، ستجد سيد حجاب (جيل الستينيات) يكتب قبل الطوفان الجاى، كصرخة صادقة ضد الفساد والصهيونية والقبح والسلطة الفاسدة المفسدة، فى الديوان القصيدة لم يهتم صاحب «صياد وجنية» لجماليات تراثة الشعرى، ولكنه وقف فى مواجهة «أصحاب جلالة العار، ذوى المقامات والمذمات.. اللصوص الكبار، أصحاب فخامة الانبطاح والسعار، أصحاب سمو الخسة والانحدار»، من جيل السبعينيات صدرت ثلاثة دواوين رائعة، «أوراق شخصية» لمحمد سليمان، «كأنى هو» لفريد أبو سعدة، «الشمعة من طرفيها» لمحمد بدوى، سليمان يواصل مشروعة التفعيلى بإخلاص، رغم حسه النثرى الغنى والشفاف، أنت أمام شخص ينحت فى الزمن، يذهب إلى قريته «مليج» بعد الستين شاعرا أنه خذلها، شاعر عذب وبسيط وموجع، فريد أبوسعدة يواصل شطحاته الصوفية المدببة، يصرخ بعد موته فى الناس ويقول أنا هنا وهناك، فريد الذى تجاوز الستين قبل عامين يكتب بروح شابة، شباب له تاريخ مع الكتابة، قلق، يبحث عن مداخل جديدة فى الشعر، يخطئ القنص أحيانا، ولكنه يصيب غالبا، أما محمد بدوى أستاذ الأدب العربى، فكان مفاجأة العام، لأن ديوانه الجديد قفز به إلى منزلة عالية فى الشعر، كانت مشكلة بدوى أن تصوراته عن الشعر أكبر من قصيدته، وكنت تشعر أن انحيازاته متعسفة،ولكنه مع «الشمعة من طرفيها» رق بشكل مخيف، وظهر الشاعر بداخله، الشاعر المتورط فى الحياة لا النظريات، وقلت الحيل السبعينية التى أجهدت الشعر عقدين على الأقل، من شعراء الثمانينيات محمود قرنى، صدر له «قصائد الغرقى»، ديوان جميل ملىء بالغضب والرقة، عن الأرواح المنكسرة والسياط التى زرعها الغرباء وجروح الأشقاء وقناة السويس والنبل والأخوة، والديوان قفزة مهمة فى مسيرة الشاعر، بين شعراء التسعينيات صدرت خمسة دواوين جميلة، «جولة ليلية» لياسر عبد اللطيف، أماكن خاطئة لأحمد يمانى، كل ما صنع الحداد لمحمود خير الله، تفكيك السعادة لمؤمن سمير، كأنها لى لأمل جمال، ياسر صاحب «قانون الوراثة» التى اعتبرها فتحا فى الرواية الجديدة فى مصر، يعود إلى الشعر بديوان يبحث فيه عن صوته الخاص، ديوان خال من الدهون البلاغية، عبارة عن لحن جديد، وجوع لا ينتهى وسفر لا جدوى منه، فى ديوان يمانى (الذى يعيش فى إسبانيا منذ سنوات) ستشعر كم هو غريب ووحيد، وكيف تحولت اللغة العربية إلى سلوان، وستتعرف على ورطة شاعر مصرى أمام ثقافة تستريب فيه، يحاول الاقتراب بمشاعره الطيبة دون جدوى، محمود خيرالله غاضب كعادته، ولكنه غضب خلاق، يخجل صاحبه من الرقة التى تحمل قصائده، مؤمن سمير مازال متمسكا بطفولته ويخاف عليها، ويحاول أن يبحث عن الخلل الذى أودى بنا إلى هذا المصير، أمل جمال تحاول «اصطياد الحنان الذى يعبر ذاكرتها» هى وحيدة وممتلئة أيضا، فى 2009 ظهرت أصوات رائقة لأول مرة، منها حنان الشافعى فى «على طريقة بروتس» و«تخاريف خريف» لمؤمن محمدى، وهو إضافة لشعر العامية لأنه لم يستعر قاموس أحد ويصيب الهدف من أقصر طريق.