ياسر أيوب

ما بين إعلام رسمى تفرغ للدفاع والتبرير.. وإعلام خاص انشغل بالانتقاد والهجوم

مصر وإدارتها وصحافتها.. ودوائر أمنها القومى

الخميس، 12 فبراير 2009 08:30 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
◄لا أحد من كبار الصحفيين يستطيع الإجابه عن سؤال واحد حول فهمه لدوائر الأمن القومى وأين تقع مصالحنا فعلاً?

ما هو الفارق بينى وبين أى صحفى أمريكى لو تخيلنا أن كلا منا سيجلس فى هدوء وحيدا ليكتب تحقيقاً.. أو تقريراً.. أو تعليقاً.. يخص الأمن القومى فى بلاده.. هذا هو السؤال الذى بات يشغلنى ويطاردنى فى إلحاح وإزعاج طيلة الأيام الكثيرة الماضية.. وفى كل يوم جديد.. وبعد طول تمهل وتأمل وتفكير.. كان ينتهى بى الأمر إلى إجابة جديدة تختلف عن إجابات الأيام السابقة.. حتى باتت تراكم داخلى أكثر من إجابة لنفس السؤال.. أهمها على الإطلاق أن زميلى الأمريكى سيكتب عن ملف قديم وواضح المعالم ودائم ومستقر.. وأية كتابة جديدة عنه لا تعنى تغييراً جذرياً أو اختراعاً لحقائق جديدة بقدر ما هى مراجعة لسياسات ممكن أن تتبدل أو تتغير لمصالح ورؤى وقناعات أبداً لا تتغير.. بينما حين سأجلس لأكتب أنا سأكتب عن ملف ليس محدداً أو مستقراً ولا هو واضح المعالم.. كما أنه ملف لم تسبق لى أو لغيرى دراسته ومراجعة أوراقه وتفاصيله وليس فيه حقائق ثابتة يصعب تغييرها وتبديلها وفق مصالح وقتية وأهواء وتيارات سياسية أو اقتصادية قد تهب فجأة أو حتى تخمد فجأة.
وقبل أن أناقش هذه الإجابات أو الفوارق بينى وبين الصحفى الأمريكى فيما يخص الأمن القومى سواء لمصر أو للولايات المتحدة، أود التوقف أولا عند بعض الملاحظات الضرورية والأساسية.. والملاحظة الأولى هى التى تخص السرية والأمن القومى.. فليس صحيحا أن الأمن القومى لأى بلد من الملفات السرية بالكامل أو الممنوع الخوض فيها بالحديث والحوار والتعليق وإبداء وجهات النظر.. وإنما هى تحتمل وتتسع لكل ذلك.. وأصغر صحفى فى العالم يستطيع أن يعرف وأن يقرأ وأن يتابع حقائق وتفاصيل وخطط الأمن القومى الأمريكى من حروب تضمن تدفق الزيت إلى وسائل رواج صادرات أمريكا من السلاح إلى القمح مرورا بطموحات تكسير عظام المنافسين أو المفترض أنهم سينافسون الولايات المتحدة اليوم أو بعد مائة عام فكل ذلك ليس من الأسرار الأمريكية فالمصالح العليا الأمريكية ليست من الأسرار التى لا يعرفها إلا الكبار.. وإنما تبقى الأسرار الكبيرة هى كيف ستقوم أية إدارة أمريكية بتحقيق هذه المصالح أو حمايتها والعمل على دوامها وبقائها.

أما الملاحظة الثانية فهى تلك التى تتعلق بالصحافة ودورها وعلاقتها بقضايا وأمور الأمن القومى فى أى بلد.. فمن المؤكد أن الصحافة الأمريكية، سواء تطوعا منها أو بدعوة من إدارات متتالية أو أنها فرضت نفسها بالضغط والإجبار.. نجحت فى أن تصبح شريكا فى الأمن القومى الأمريكى.. شريك كامل بات له قدره واحترامه ومكانته وله دوره وأهميته وضرورته أيضا.. وعلى الرغم من حريات ليس لها سقوف واستقلالية مطلقة عن أى إدارة تتمتع بها هذه الصحافة إلا أنها فى مواقف وحكايات كثيرة كانت الشريك الملتزم بالأمن القومى للبلاد.. وأن هناك مصالح عليا تأتى فى ترتيب الأولوية والاعتبار وتسبق أى مكاسب مهنية أو شخصية أو حتى اقتصادية.. أما فى بلادنا.. فلم تكن الصحافة المصرية فى أى يوم مضى، وباستثناءات قليلة للغاية، شريكا للإدارة المصرية فى أى قضية تخص الأمن القومى.. ولم يحدث أن قررت الصحافة استباق الإدارة بالمغامرة والتفتيش والتأمل والفكر لتضع كل ما جمعته من رؤى وملاحظات أمام الإدارة المصرية قبل أن تقرر وتختار، وعلى سبيل المثال: لو تخيلت أننى الرئيس مبارك.. أى رئيس مجلس الأمن القومى المصرى.. تماما مثل الرئيس الأمريكى، وأننى باعتبارى رئيسا لمصر، ومثلما يفعل الرئيس الأمريكى، احتجت لدعوة صحفى من بلدى لتناول فنجان قهوة فى مكتب الرئاسة للحديث عن أفريقيا أو إيران أو الصين أو روسيا للحديث عن قضية الغاز أو الاستثمار الأوروبى أو كيف نواجه أزمة اقتصادية عالمية بأقل خسائر مصرية ممكنة ومحتملة.. فهل سأجد مثل هذا الصحفى الذى سيأتينى وأنا رئيس مصر لا ليسمع منى ويروح ليكتب، وإنما ليتكلم هو وأسمعه أنا الرئيس، وهو يقدم لى تجربته ومشاهداته وتوقعاته ونصيحته باعتباره صحفيا ومواطنا مصريا ونتقاسم شأنا يخص مصر ومصالحها العليا.. وأخشى أننى كرئيس لمصر لن أجد مثل هذا الصحفى، لأنه -وأيضاً مع استثناءات قليلة جداً- ليس هناك صحفيون يحبون هذا الدور، فهو شاق ومزعج ويستدعى التفرغ لمهنة وممارستها بعقول لا تستريح وأعصاب ليس هناك ما يمنع احتراقها، ولأنه أيضا ليس هناك من هو مؤهل لذلك، ليبقى المشهد العام يخص صحفيين كبارا لهم قدرهم واحترامهم.. ولكنهم لا يريدون ولو مرة أن يبادروا بالأفكار فى حضرة الرئيس أى رئيس.. وإنما غاية الجهد والمنى هو السفر على طائرة الرئيس والإنصات إليه ثم إعادة ترديد ما قاله الرئيس.. وهى بالتأكيد مهمة صحفية مطلوبة وضرورية.. ولكنها تخص المهنة فى شكلها التقليدى وليست تخص الصحافة كما من المفترض أن تكون، لتشارك فى صياغة أمن قومى وحماية مصالح عليا للبلاد.. وقد توقفت كثيراً وطويلاً أمام تجربة كوندوليزا رايس، المستشارة السابقة للأمن القومى الأمريكى، فى مذكراتها والتى شرحت فيها تجربتها مع السياسة ومع الصحافة ومع الأمن القومى، ومن بين كثير توقفت عنده.. أود الآن أن أعيد ما قالته كوندوليزا فى إحدى محاضراتها بالجامعة.. كانت تنصح تلاميذها قائلة: إذا وجدتم أنفسكم برفقة أشخاص يوافقونكم على كل شىء فاعلموا أنكم رافقتم الأشخاص غير المناسبين.

أما الملاحظة الثالثة فهى أن أحدا من المفكرين العظام أو الصحفيين الكبار فى مصر، وما أكثر مفكرينا وصحفيينا، وأقول ذلك قاصدا وبنوازع التقدير والاحترام وليس السخرية أو التشكيك.. لم يسبق له أن قدم تصورا أو رؤية متكاملة للأمن القومى المصرى، أو حتى قام بدعوة آخرين بمن فيهم المسئولون لأن نضع خريطة لهذا الأمن القومى نتفق عليها ونلتزم بها كلنا، ولا أعرف لماذا لم يقم أحد بذلك رغم أننا فى مصر نملك من يستطيع ذلك ومن يقدر على هذه المهمة، وبدون الخوض فى تفاصيل أكاديمية بشأن تعريفات وتطور ومراحل ومراتب الأمن القومى لأى بلد، فإنه من الممكن الاختصار دون إخلال، تحديد الأمن القومى لمصر أو لأى بلد آخر فى الدنيا بأنه عبارة عن ورقتين.. فى الورقة الأولى تحديد المصالح الحيوية الدائمة للبلد، وفى الورقة الثانية تحديد للمخاطر والتهديدات سواء كانت حالية قائمة أو كانت مستقبلية، ومن المربك أن مصر حتى الآن لم تحدد بعد لا مصالحها الحيوية ولا أيضا المخاطر والتهديدات التى قد تواجهها.. ولا أقصد مصر مع مبارك، وإنما أقصد أيضا مصر جمال عبد الناصر ومن بعده أنور السادات، فلم تكن هناك أى ثوابت للأمن القومى فى العصور الثلاث.. أحياناً كانت أفريقيا لها المقام الأول وهى الأولى بالرعاية والالتفات، وفى أحيان أخرى تصبح هى القارة المنسية، وكأنها قارة لا مصالح فيها لمصر ولا تهديدات قد تأتى منها لمصر، وفى أحيان تصبح إيران هى حليف استراتيجى محتمل وضرورى وفى أحيان أخرى تصبح هى صندوق الشرور والآثام.. والعرب ممكن أن يصبحوا امتداداً للأمن القومى المصرى وركنا أساسياً فيه وفجأة يصبح من الممكن التجاوز عن هذا الامتداد العربى ونسيانه وتجاهله.. وربما كانت أزمة مصر أثناء الحرب على غزة هى واحدة من تلك المظاهر التى تجلت أثناءها أزمة غياب التصور الدائم والثابت للأمن القومى المصرى، وهى أزمة لعب فيها الإعلام الرسمى المصرى، مكتوباً ومرئياً، الدور الأكبر والأخطر فى توضيح دون قصد أن الأمن القومى المصرى لا يزال وقتيا ومرحليا دون أسس ثابتة ومعايير واضحة، وأنا أملك من الشجاعة القدر الكافى لأن أقول إن الإعلام المصرى الخاص، مكتوبا ومرئيا، كان أيضا شريكا للإعلام الرسمى فى كل ذلك.. بل إن الحكاية كلها تم اختصارها فى إعلام تفرغ للدفاع عن والإدارة والحكومة فى مصر.. وإعلام على الناحية الأخرى تفرغ هو الآخر لانتقاد والإدارة والحكومة فى مصر.. وغاب عن الاثنين مصر نفسها وأمنها القومى ومصالحها العليا، وتحضرنى هنا ملاحظة عابرة قد تبدو خارج السياق ولكنه بات من الضرورى أن تقال هنا والآن، وهى أن بعضا ممن ينتقدون الإعلام الآن إنما هم فى حقيقة الأمر يسعون لتأكيد وتوضيح فشل الموجودين الآن على الساحة وذلك ليطرحوا أنفسهم كبدائل أو كاختيارات بديلة، وأقول ذلك لتأكيد أننى لا أطرح نفسى على أحد ولا أقدم استمارة طلب تعيين أو توظيف أو أصوغ مبررات للقيام بأى دور مستقبلى.

والآن.. وبعد هذه الملاحظات كلها والتى كانت مهمة وضرورية.. أعود لقضيتى الأساسية.. وهى الأمن القومى المصرى.. وأظن أن هناك ثوابت لابد من الاتفاق عليها أولا.. فحماية النيل أمن قومى بكل ما يعنيه ذلك أفريقيا.. وحماية الحدود أمن قومى بكل ما يتطلبه ذلك سياسيا وعسكريا واقتصاديا.. وإسرائيل هى العدو الآن ومستقبلا.. وكل اللاعبين الكبار أو الصغار فى الشرق الأوسط إن لم يكونوا حلفاء.. فمن الضرورى ألا يصبحوا أعداء.. أو باختصار آخر أرجو ألا يكون منقوصا أو مخلا.. فلمصر فى أى عهد أو عصر.. ثلاث مصالح.. مصالح حيوية تتمثل فى بقاء مصر والمصريين على قيد الحياة.. ومصالح دائمة مثل اتفاقيات الاقتصاد والاستثمار وأسواق مفتوحة طوال الوقت لصادرات مصرية وآفاق خارج الحدود تستوعب عمالة مصرية دائمة أو مؤقتة.. ومصالح وقتية وهى تلك التى نكتفى بها حتى الآن ولم نهتم إلا بها.

وإلى جانب المصالح.. كنت ولا أزال أتمنى أن تنفتح أبواب أمام المصريين جميعهم للمشاركة فى صياغة الأمن القومى لبلادهم، فمن المؤكد أن مصر لم تمنح أبناءها مثل هذه الفرصة أبدا من قبل أن يتقاسموا صياغة رؤية للحاضر والمستقبل ولأمن قومى لمصر وللمصريين وكنت ولا أزال أتخيل أنه بين المصريين المدهشين والرائعين من يستطيعون أن يفتحوا أمامنا آفاقا هائلة وواسعة وجديرة بالانشغال بها، فإلى جانب الأمن القومى بقواعده وتفاصيله ومراحله هناك ملفات أخرى باتت لا تقل ضرورة أو أهمية، فالعشوائيات التى باتت تشغل ما يزيد على الثلاثين بالمائة من المساحة المسكونة فى مصر يمكن اعتبارها قضية أمن قومى، ومن الفاضح أننا حتى الآن نعجز عن الاتفاق على عددها لتضارب أرقامها وخشية من تحديد المسئولين عنها.. وتشكل هذه العشوائيات تهديدا حقيقيا للأمن القومى بأكثر من شكل وفى أكثر من مجال.. ففيها ينابيع الغضب والحقد الاجتماعى وإحساس الضياع والهوان.. ومصانع جاهزة لمن يريد استخدامها لإنتاج مزيد من التطرف أو مزيد من الجريمة.. والانفجار السكانى أيضا أحد تهديدات الأمن القومى ليس بالتصور الشائع أو بقصد زيادة عدد السكان وإنما هو تهديد للأمن القومى لو استمر عجز الحكومات المتعاقبة من تحويل سكان جدد كل يوم فى مصر إلى ورقة رابحة واستثمارات للمستقبل بدلا من الفرجة عليها والتغنى بقسوتها ومخاطرها.. والمواصلات المرتبكة فى مصر كلها وعجز الدولة عن مواجهة أزمتها والتظاهر بعدم الالتفات لها مما سيعنى قريبا أن الذى سيحكمها ويتحكم فى انتقالات الناس سيغدو أقوى من أية حكومة ومن أية سلطة.. كما أن عودة العاملين فى الخليج بشكل سريع ومفاجئ.. هو أيضاً تهديد للأمن القومى لأنهم لن يعودوا فقط للبحث عن وظائف وموارد وحياة بديلة، وإنما سيعود معهم ضيقهم وغضبهم وثوراتهم التى لا يمكن قياس حجمها ولكن ستسهل قيادتها.. وإلى جانب هذه التهديدات الحقيقية وتهديدات أخرى كثيرة غيرها.. هناك أحلام وطموحات سياسية واقتصادية مشروعة وملحة وعاجلة.. وهى أيضا كثيرة.. وعلى سبيل المثال.. وفى الحفل الضخم الذى شهدته دبى للاحتفال بافتتاح منتجع أطلانطس.. قال أحد كبار المديرين وهو يتأمل كأس الشمبانيا فى يده: إن دبى تحتفل أو تتظاهر بالاحتفال.. بينما يدرك كل من فيها أنها بدأت تعيش مأساة حقيقية.. وبصرف النظر عن فوارق حالية بين دبى وبين مدينتى شرم الشيخ والغردقة.. فإن الرؤى المستقبلية والطروح الاستراتيجية تحتم علينا أن نطرح إحداهما الآن بديلا لدبى فى المنطقة بأسرها.. ولكل منهما ميزة أبدا لن تملكها دبى.. وهى أنهما تنتميان لدولة قائمة ومستقرة ومجتمع متحقق وظاهر وأيد عاملة فى مختلف المجالات لن يجرى استيرادها من مختلف بلدان العالم وهى مجرد فكرة أو رأى أو اقتراح.. وهذا بالضبط هو الفارق بينى وبين أى صحفى أمريكى.. هو سيكتب ملاحظات حول سياسات تسعى للحفاظ على أمن قومى للولايات المتحدة.. وأنا لن أكتب إلا داعيا وراجيا أن يصبح لدينا أو عندنا.. دوائر استراتيجية واضحة للأمن القومى.









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة