أحمد عبدالمعطى حجازى

الطيب صالح الذى فقدناه ووجدناه!

الجمعة، 27 فبراير 2009 02:27 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا أستطيع أن أطمئن إلى وصف للعلاقة التى كانت تصلنى بالطيب صالح، كنت أحمل له شعورا قويا بالإعجاب والمودة لا يمنع من وجود أسئلة واستفسارت ظلت فى الهامش معلقة بلا جواب، ولعله كان يبادلنى هذا الشعور.

إقبال متبادل، هو مزيج من الفرح التلقائى والمجاملة المحسوبة، لكنه مشروط دائماً بوجود مناسبة تجمعنا مع غيرنا فإذا افترقنا فليس هناك ما يدعو أياًّ مناَّ لأن يبادر بالسعى للقاء، إلا فى مرات قليلة دعانى فيها مع آخرين للعشاء فى منزله حين كنا نسكن باريس معاً، ودعوته معهم كذلك رداً على دعوته.

غير أن إعجابى به ككاتب كان أعمق من أن تعبر عنه هذه العلاقة التى كانت تبدو، فى الظاهر على الأقل، علاقة اجتماعية أكثر من أن تكون علاقة شخصية.ولا شك أن علاقتى بالطيب صالح الكاتب غلبت علاقتى بالطيب صالح الإنسان، وربما كان هذا بسعيه هو وإرادته إذ كان يفضل أن نفتقده فى الحياة لنجده فى الكتابة، وقد تحقق له هذا أخيرا كما لم يتحقق من قبل، فقدناه لنجده!.

والواقع أنى عرفت الطيب صالح متأخرا عشرين سنة أو تكاد، عرفته فى أوائل الثمانينيات فى باريس التى قدم إليها من قطر حيث كان يحتل منصبا مرموقا ليعمل فى منظمة اليونسكو، وكنت قد سبقته إلى مدينة النور ببضع سنوات فى رحلة طالت دون قصد، إذ عرضت علىّ جامعة باريس أن أعمل بها، فظل العام يحملنى للعام حتى أكملت فيها سبعة عشر عاماً.

فى ذلك الوقت كان هو قد تجاوز الخمسين ببضع سنوات، وكنت أتقدم إليها، فبينى وبينه مسافة لا تزيد ولا تنقص، تصلنى به بقدر ما تفصلنى عنه، وفى تلك السنوات عرفته شخصياً بعد أن ظللت أقرأ عنه وأتابعه من بعيد، منذ أخذ اسمه يتردد فى أواسط الستينيات حين نشر روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» فى مجلة «حوار» التى صدرت فى بيروت، وشاع فى أوساط المثقفين المصريين والعرب عامة أن المخابرات الأمريكية تمولها، ولهذا قاطعنا هذه المجلة، ورفضنا النشر فيها عندما جاء إلى القاهرة يدعونا لذلك رئيس تحريرها الشاعر الفلسطينى توفيق صايغ، وقد ثبت لنا بالفعل من تحقيق صحفى نشرته «النيويورك تايمز» أن ما أشيع عن «حوار» صحيح، وأنها كانت إحدى المجلات التى تمولها المخابرات الأمريكية وتستخدمها فى مناهضة النظم الاشتراكية ومحاصرة الحركات الثورية، وقد توقفت «حوار» عن الصدور بعد نشر هذا التحقيق، ومات رئيس تحريرها كمدا، وفى ظنى أن الذين شاركوا فى تحريرها كانوا بعيدين عن مصادر تمويلها.هذه الملابسات كان لها أثرها السلبى فى علاقتنا بالطيب صالح وبأعماله الروائية التى تأخرت قراءتنا لها أو قراءتى أنا شخصياً سنوات عديدة.

«موسم الهجرة إلى الشمال» نشرت لأول مرة سنة 1966 لكن لم أقرأها إلا فى أوائل الثمانينيات بعد أن ترجمت إلى الفرنسية وإلى لغات أخرى عديدة، وأصبحت حديث القراء والنقاد العرب والمستعربين.

لا أذكر الآن إن كنت قرأتها قبل أن أتعرف على الطيب صالح أو بعد أن تعرفت عليه، لكنى متأكد أن الرواية فتنتنى إلى الحد الذى أصبحت هى طريقى لمعرفة الطيب صالح على حقيقته، ولاتزال كذلك حتى الآن، إنها مرجعى إليه حين أبحث عنه، ولا شك أننى أجده فيها أكثر ما كنت أجده فى الحياة. لقد عرفت الطيب صالح من خلال روايته أفضل مما عرفته معرفة شخصية مباشرة، وقد يبدو هذا غريباً بعض الشىء، «فموسم الهجرة إلى الشمال» ليست سيرة ذاتية، ووجوه الشبه الموجودة بين بطل الرواية وكاتبها موجودة أيضاً بين البطل وكثيرين من الشبان العرب الذين تعلموا فى أوروبا وأقاموا فيها، وقد سئل الطيب صالح حول ما يربطه ببطل روايته فنفى أن يكون هو إياه، لكنى بالإضافة لوجوه الشبه الظاهرة الصريحة، أرى وجوه شبه خفية مستترة يوحى بها الكاتب، ويستخدم فى الحديث عنها رموزاً وكنايات نستشعر وجودها، ونفهم ما تدل عليه وتشير إليه، دون حاجة لتوضيح أو تفسير، وفى هذا تلعب ثقافة الطيب صالح الشعرية دوراً أساسياً، وفى نيتى أن أعود للكتابة عنه، وعندئذ سيتسع أمامى المجال لأشرح ما قلته عن العلاقة بين بطل الرواية وكاتبها الذى جرد من نفسه ثلاث شخصيات، فهو البطل محور أحداث الرواية، وهو الراوى الذى يحدثنا عن البطل، وهو الكاتب الذى كتب الرواية ورسم صورة بطلها، ورسم صورة راويها، ورسم نفسه فى الصورتين كما هو فى الواقع أو كما يتمنى أن يكون، لكن هذا الكلام لن يكون واضحا إلا فى مقالتى القادمة التى سأخصصها للرواية وحدها، وحسبى أن أوضح فى السطور الباقية إشارتى السابقة لثقافة الطيب صالح الشعرية. لقد بدأ الطيب صالح طريقه بمحاولات فى الشعر لم يواصلها لسبب لا أدريه، واكتفى من الشعر بقراءته وحفظه والتمكن من اللغة عن طريقه، والشعر هنا ليس الشعر العربى وحده، واللغة ليست العربية فحسب، بل الشعر فى كل لغة، وخاصة فى الإنجليزية التى كان يعرفها معرفة جيدة.

هكذا كان الطيب صالح يفاجئ أصحابه بما يحفظه من مطولات غير مشهورة، وليست مما اتفق الناس على حفظه أو الاستشهاد به، وإذن فقد كان يقرأ كثيراً، ويختار لنفسه، ويحفظ ما يختار فإن قرأه لك وجدته رائعاً، وحسدته أو غبطته على حسن اختياره، وسألت نفسك: كيف أمكن لصاحب هذه الروح الغنائية أن يكون كاتبا؟ هذا التروبادور البدوى، هذا الشاعر الجوال كيف أمكن أن يكون روائيا؟.

الشعر ثقافة، والرواية ثقافة أخرى، وأكاد أقول إن كلا من هذين الفنين حضارة قائمة بذاتها، الشعر غناء، والرواية كتابة، يمكن للشاعر أن يكون بدوياً يرحل فى الزمان، ولا يكاد يرى المكان، يكتفى بنفسه وينطق، بلسان روحه، أما الروائى فهو ابن المدينة، ابن الزمان والمكان، يعيش مع الآخرين، ويحفظ تواريخهم، ويقتفى آثارهم، والسؤال: كيف استطاع الطيب صالح أن يؤلف بين الروحين وبين الحضارتين، بين بوادى السودان التى جاء منها: العمارة، وكلكة، وكباسة، وبين لندن، وبيكاديللى، والتايمز، وهايدبارك؟ امرئ القيس، وأبى نواس، والمتنبى، والمعرى من ناحية، وشكسبير، وإديث ستويل، وباخ، وبتهوفن من ناحية أخرى؟.والإجابة بسيطة، فقد جعل الرواية قصيدة، وجعل القصيدة رواية.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة