على صوت مارسيل خليفة عشقت وعرفت معنى الأمومة، وبين كلمات محمود درويش، احتضنت ابنتى أروى وأنا أرى ثغرها يتبسم لى كلما غفوت أو اختبأت خلف تفاصيل يومى، يرتجف قلبى كلما زادت شقاوتها ولعبها، أخاف عليها من نسيم الهواء إذا داعب شعرها، فأهرول ألملم خصلاتها وأقبلها.
ظلت تفاصيل الأمومة عندى حتى جاء يوم كدت أفقدها ويتوقف قلبى نهائياً، حين رأيتها تفقد الوعى لأكثر من ربع ساعة عقب استحمامها، ونقص الأوكسجين بالحمام ليصيبها بحالة من التشنج، أربكتنى لحد الموت، وكان بكائى بلا دموع لمجرد إحساسى أننى أفقدها.
فعشق الحياة مع من نحبهم ينسج حالة من التمرد فى قلوبنا على صعوبة الفراق، والخجل من الموت شفقة على من نحب .. ولا يوجد أحب إلى القلب من الضنا، الذى يتكون على أنغام دقاته، لتشكل كل واحدة منها نسيجاً مختلفاً من روحه، تزيد الدقات فيتحرك وتتباطأ فيخفت وهكذا تتصاعد معه المشاعر.
مر الموقف ومعه الشهور حتى يوم الاثنين أول يوم من أيام العدوان الإسرائيلى على غزة، وأنا أشاهد بموقع اليوم السابع صورة الخمس فتيات الأخوات بعد أن طالتهم يد الوحشية الإسرائيلية، فانفطر قلبى وانهمرت الدموع من عينى بلا قصد وأحسست بألم أمهم وحسرة قلبها عليهم ووضعت نفسى مكانها لوهلة.
وهنا رأيت من جديد محمود درويش يطل على من خلف الأمهات الفلسطينيات يخبرنى عن يوم عيد الأم فى رحاب الفلسطينيات.
كل سنة وإنتى طيبة يا يوما .. ربنا يخليكى لنا .. ما أجملهن خمس وردات تهدين البسمة والحب والأمل لأمهن صباح يوم عيد الأم، تمتزج صوت ضحكات جواهر ودينا وسمر وإكرام وتحرير مع صوت القنابل، وتتصاعد دندنتهن ورقصاتهن على أنغام مارسيل خليفة وكلمات محمود درويش، مع تصاعد ألسنة اللهب فى شوارع بلدتهن.
"أحن إلى خبز أمى وقهوة أمى ولمسة أمى، وتكبر فى الطفولة يوماً على صدر أمى، وأعشق عمرى لأنى إذا متّ أخجل من دمع أمى".
تتراقص جواهر (4 سنوات) وتتمايل على صدر أمها وتخطف قبلة من خديها وتجرى، لترتطم بأختها الأكبر بعامين دينا، لتسقط معها ملابس أمها التى قامت بكيها خصيصا لترتديها فى هذا اليوم وتتلعثم كلمات درويش فى فمها وتعاودها الضحكة وتردد "خذينى إذا عدت يوماً وشاحاً لهدبك وغطى عظامى بعشب تعمّد من طهر كعبك .. وشدى وثاقى بخصلة شعر .. بخيط يلوّح فى ذيل ثوبك ..عسانى أصير إلهاً .. إلهاً أصير .. إذا ما لمست قراره قلبك".
وتعيد الكوبلية ابنتاها سمر وإكرام، وهن يرتبن أثاث المنزل ويضحكن ضحكة طفلين معا وترفرف أهات الصبر على شفاه أمهن، داعية لهن من قلبها أن يطيل أعمارهن وتفرح بهن الخمسة ويعطيها الله من العمر والصحة ما يجعلها تحمل أبناءهن.
تشعل تحرير (17 عاماً) "نار الكانون" وتتذوق عصيجة اللحم وتطوى معها فطائر الخبز فوالدها على وصول، وتهرول مسرعة على طرقات بابهم الخشبى، ويقبلها والدها يا تحرير مال السعادة تقفز من عينيك، ترد بخجل الابنة الكبرى، اليوم عيد الأم فأمى تسمع معنا مارسيل خليفة وتصفق، فيحدثها أبوها عن سر تسميتها قائلا "أنا بمولدك حررت الأرض وعشقت السلام وتناسيت بحار الدم وحلمت بالتحرير فكنتى تحرير وكانت أمك وسمر ودينا وإكرام وجواهر".
هنا توقفت الذكريات وصمتت دقات قلب الأم لدقيقة، والتفتت حولها فلم تجد بناتها، لم تجد سوى باب خشبى يحمل خلفه ذكريات يوم مشئوم، اختلست النظر فوقعت عيناها على دولاب مهلهل الملابس تطل من بين ضلفتيه ملابس بناتها الخمسة، ودمية ابنتها الصغرى محروقة اليد والوجهة، وفراش تنقشه دماء الغدر وتصرخ من بين طياته رائحة الموت فى صمت وعجز.
فتغلق باب الغرفة وتتكئ على جدار بيتها الخاوى من الضحكة والبسمة، وتعيد تشغيل المسجل لتعود وتسمع مارسيل يدندن لها "ضعينى، إذا ما رجعت وقوداً بتنور نارك، وحبل غسيل على سطح دارك، لأنى فقدت الوقوف بدون صلاة نهارك، هرمت فردّى نجوم الطفولة، حتى أشارك صغار العصافير درب الرجوع لعش انتظارك".
لم يكن هذا مشهد من فيلم، أو خيال جانح لكاتبة السطور، ولكنه كان واقعاً تعيشه أم الخمس بنات التى قتلتهن يد الغدر الصهيونية ثانى يوم من أيام ضرب غزة، قتلتهن وهن نيام لا يملكن حق الفرار، وغسلت أمهن جثثهن الخمسة والحسرة تقطع قلبها.
فكأن الله أودع روح فلسطين المعذبة فى جسدها لتكون شطراً من قصيدة كنعانية اجتثها الغاصبون من ليلها الحالم، فشجون حيفا ويافا تكسو وجوهها سمرة بلون الشاطئ الذهبى، وشموخ القدس يسبغ عليها عنفواناً لا ينحنى لظالم ولا لحبيب، وعناد غزة ينفث فيها قامة تكبر على أى ألم وجرح .. إنها أم فلسطينية تلوح لأمهات العالم بكفّ غارقة فى دمائها وأخرى تكفكف دموع الثكل واليتم والترمّل.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة