فى الشوارع والطرقات، فى الحدائق والمتنزهات، على كورنيش النيل والكبارى المطلة عليه، فى السيارات الخاصة والمواصلات العامة، فى المطاعم والكافيهات، أمام الناس أو دونهم، ترى العاشقين ولا يرونك، هم فى عالم آخر، لا يشغلهم إلا حالهم الذى يعجزون عن وصفه أو رسمه أو حتى تخيله، القاسم المشترك الأعظم فى كل هذه المشاهد هو عناق أياديهم الدائم وتشبث أصابعهم المستعر، الأصابع تقول «دعونا متشابكين لنعوض أوقات الافتراق»، والأكف تقول «خلقنا هكذا ومن الظلم أن نبتعد، لا تجعلوا بيننا شيئاً، حتى الهواء ليس من حقه أن يمر ها هنا، هنا لغة لا تعرفها القواميس، وحالة تستعصى على التفسير».
قبل المصارحة بالحب تلعب العيون دور البطولة، التلهف، التأمل والترقب والتقرب، وإرسال الإشارات، والشكوى من البعد، والإدلاء بالاعترافات، كل هذه الرسائل توصلها العيون بجدارة، وفور المصارحة تسمح العيون آمنة مطمئنة بأن تشاركها الأيادى دور البطولة، تقوم الأيادى بدورها على الوجه الأمثل، تخبر الحبيب بالانتقال من منطقة الحلم بالحب والاقتراب من الحبيب، والدخول إلى عالمه النابض المحسوس، وعند الانزلاق إلى هذا العالم تبدأ موجة الحلم الأخرى، فيكون الحقيقى مجازيا، والمجازى واقعاً، والواقع محلقاً إلى حيز السكون الحميمى الدافئ الرحب.
لا يعرف المحبون لماذا يشبكون أياديهم هكذا دونما اتفاق، كل محبى الأرض يمارسون هذا السلوك، وكأنهم يحفظونه كطقس مقدس، إن سألت أحدهم لماذا يفعل هذا لن يجد ما يقوله، هو يمسك بيد حبيبته تلقائياً وكأنه من البديهيات التى لا تحتاج إلى تفكير، لا إجابة محددة عن السؤال سالف الذكر، يتخيل البعض أنه يمسك بيد حبيبته لمجرد الإعلان بالحب، لكن يبقى سؤال: لماذا هذا الفعل بالذات يختاره الأحباء فى كل بلاد العالم؟
تشتبك الأصابع، وتتعانق الأكف، وتتقارب الأنامل، لغة خاصة تمارسها الأيادى بعيداً عن اللغات المتعارف عليها، لغة الجسد أغنى وأوفر من لغة اللسان، لغة اللسان يميتها الوضوح، لغة الجسد يحيها الحس، لغة اللسان مصوبة إلى المعنى، لغة الجسد لا تقصد معنىً واحداً، لغة اللسان تخضع للتأويل والتفكير، لغة الجسد تستغنى عن كل هذا، ليس شرطاً أن يكون كل ما تسمعه موجهاً إليك، لكن بالضرورة كل ما يمسك يستهدفك وحدك.
تقول الأيادى ما تعجز الكلمات عن قوله، تعود بالإنسان إلى لغته الأولى، لغة الإشارة التى دلت الإنسان الأول على وجوده، وتعود بالحبيب إلى زمن الطفولة المفتقد، وقت أن كان صغيراً يسترشد بيد أمه لتنير له الطريق وتحفظ له توازنه، يمارس الحبيب الدورين، هو أم وطفل فى آن واحد، يرشد حبيبه ويسترشد به، فى تشابك يديهما يعلنان للعالم أن لكل منهما سندا وظهيرا.
تتعانق الأيدى وتخرس الألسنة، لا صوت يعلو فوق صوت اليدين، تتقاربان، تتشابكان، تتلامسان، تتداخلان، تتباعدان، كل فعل من هذه الأفعال له معنى قوى دفين، يقول الحبيب: أنا خائف، فتتقارب اليدان، أنا مشتاق فتتشابك، أنا ظامئ فتتلامس، أنا حزين فتتهامس، أنا ضائع فتتداخل، أنا غاضب فتبتعد على أمل باللقاء.
كانا يسيران بمفردهما والآن كل من الحبيبين يجد من ينتمى إليه ويفتخر باقترابه منه، تشابك الأيدى دليل على الانتماء إلى الحبيب، كل محب ينتمى إلى من اختاره بمحض إرادته، لو قلنا إن القلب هو مركز المشاعر، والعقل هو مركز التفكير، والعين هى مركز الرؤية، فالأيادى بلا شك هى مركز الإرادة، تتحد الإرادات فى تناغم جميل، فتتشابك الأيادى ولا تريد أن تفترق، تتحرك يد الحبيب تلقائياً فتستجيب لها اليد الأخرى، بلا اتفاق ولا موعد تختبئ كل واحدة فى الأخرى.
اليد بوابة ملكية من خلالها يدخل كل عاشق إلى عالم معشوقه بإرادتها الحرة، وبوعيها الفطرى التلقائى، لا تحتاج اليد إلى صور شعرية لكى تقنع الحبيب بما تقوله أو تسحره ليستجيب لها، فهى وحدها مجاز ابتكره الخالق ليقارب بين القلوب الظامئة، لا تقول اليد كلمة لها معنيان، ولا تقف عاجزة أمام اختلاف الأعراق والبلدان واللغات، لا تحتاج اليد للقسم إذا ما تحدثت، فحديثها صادق لا ريب، الكذب مهارة لم تتعلمها اليد بعد، وليتها لا تتعلمها أبداً.