محمد الطيب.. اسم لا تجد نعيا له فى صفحات الوفيات بالصحف، التى تزدحم كل يوم بوجهاء الثروة والمنصب والنسب العائلى، ولن تجد له خبرا خاصا عن رحيله، فآلاف المخلصين من أمثاله يرحلون كل يوم، ولأنهم بعيدون عن دائرة الضوء، لا يجدون من يكرمهم التكريم الكافى واللائق، فتخسر أيامنا بعضا من ملحها الذين يكتبون بشقائهم سعادة الآخرين.
محمد الطيب.. لا يعرفه أحد خارج حدود ناسه ومحبيه، وهم بالآلاف فى قريتى كوم الآطرون محافظة القليوبية والقرى المجاورة، هو شاب أعطى لوطنه الكثير دون ارتباط بالسياسة والسياسيين رغم وعيه الكبير بتاريخ وطنه، أعطى وطنه من خلال عمله فى التدريس دون ضجيج أو سعى إلى تكوين ثروة، وقضى سنوات ثلاث يبحث فيها عن متبرع كبد ولم يجد، فكان موته الحتمى، مات بعد أن أثبتت حالته المرضية أن فى هذا البلد كفاءات تضيع بسبب فداحة نظامها الصحى، الذى لا يعطى فرصة العلاج لمن لا يملكون إليه سبيلا.
هو ابن عمرى وواحد من رموز جيلى فى منطقتنا، بعضهم شق طريقه إلى التدريس، والوظيفة الحكومية، وبعضهم شق طريقه إلى العلم، والبعض إلى الصحافة وكان هذا جديدا فى واقعنا الريفى، أما هو فاتخذ من مهنة التدريس رسالة تربوية وعلمية فى آن واحد، فأعاد عند تلاميذه قيمة المدرس الأب والأخ والأستاذ، تلك القيمة التى كانت تميز مدارسنا فى الماضى، لكنها ضاعت بعد أن حلت لغة الشطارة والفهلوة محل كل شىء، وضربت مدارسنا فى مقتل.
اختار «الطيب» اللغة العربية مجالا لدراسته حتى يفك أسرارها، وبالرغم من براعته فيها بالدرجة التى أهلته لأن يشق طريقه من خلالها بعيدا عن مهنة التدريس، فإنه ارتضى وعن قناعة أن يربى أجيالا، أملا فى أن يرى فيهم نوابغ فى كل المجالات، كان يقول لى: «الذى فشلت فى تحقيقه أتمنى أن أحققه فيهم»، هكذا كان يردد، وهكذا أخلص لرسالته، وهكذا تخرج على يديه مدرسون فى الجامعة وأطباء ومهندسون ومحامون ومدرسون.
تخرج فى الجامعة كما تخرجنا، وكانت صدور بعضنا مفتوحة على التحدى، فنحن جيل عاش عند مفترق طرق، فلا هو لحق كاملا بيسر الحاجة وحلاوتها كآبائه، ولا هو حقق أهم أحلامه، وهى أن يعيش فى وطن يوزع مكاسبه بعدالة بين أبنائه، وبين الحالتين دهستنا الحاجة إلى المعيشة، فذهب كل فرد فى طريقه كى يحقق على الأقل ما تيسر من عون الحياة، واختار بعضنا قريته موطنا، واختار آخرون أن يكون طيرا مهاجرا يعود إليها فى زيارة خاطفة حتى يكتب الله الأجل فيعود إليها فى رقدته الأخيرة.
وفى وسط هذه المعادلة الصعبة ذهب «الطيب» إلى اللغة العربية، باشتياق المحب، فلم يكتف بمجرد شرح الدروس لتلاميذه، بل تجاوزه بكثير، فمدرسته كانت على عهده شعلة من النشاط فى فنون كثيرة، فى الخطابة والرسم، وإلقاء الشعر وحفظه، وتعليم الخط الذى كان موهوبا فيه، ولم يستثمره تجاريا، استثمره فقط فى نقل فنونه إلى تلاميذه، أملا فى اكتشاف فنان فيهم يستطيع أن يكسر حالة اختناق المواهب فى الريف فينتقل إلى آفاق أرحب لعلها تضيف شيئا إلى مسيرة الوطن، كان ينظم المسابقات من أجل ذلك، ومن لا يصبه الدور فى أحد هذه الفنون ينتقل إلى فن آخر، وهكذا مضت المسيرة بحب وعطاء قلما تجد له مثيلا، وإلى الوزارة تقدم ببحث لتطوير العملية التربوية نال تقديرا عاليا.
جمعه بالمتفوقين فى الدراسة رباطا حريريا، فلهم منه مكافأة من جيبه الخاص، لا يلتفت فى ذلك إلى حاجته للمال، فرصيد المحبة من التلاميذ كان عنده أهم، وتحول بيته إلى قبلة للتلاميذ النبهاء، وبثقة متناهية كان أولياء الأمور يتعاملون مع الأمر على أن الابن الذى لا يمر على بيت «الطيب» يكون قد خسر الكثير، وهكذا أصبح سر التفوق يأتى من عنده، وحين داهمه المرض اللعين عز عليه أن يترك رسالته فواصل مهامه مع تلاميذه، وكأنه يستمد منهم الشفاء، ومع تقدم حالته المرضية رقد حتى نهايته، ويوم وداعه هب الآلاف لوداعه يتقدمهم تلاميذه فى مشهد نادر يستحقه، كما استحقه من قبله أساتذة نجباء فى بلدتنا مثل عبدالفتاح شكرى وتوفيق عباس، فليرحمهم الله ويرحمنا معهم.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة