أعلم جيداً أن هناك عدة آلاف من المصريين يمتلكون عشرات الملايين من الجنيهات وبعضهم يكتنز المليارات - اللهم لا حسد -، ذلك أنه كلما زاد عدد الفقراء فى مجتمع ما تراكمت الثروة فى جيوب قلة من أبناء هذا المجتمع وفقاً لقوانين علوم الاجتماع والاقتصاد!
ولكن السؤال المهم: لماذا لا يشارك هؤلاء الأثرياء بأموالهم الوفيرة فى دعم وتشجيع الفن والأدب؟ ولماذا يحجم الذين حصدوا الثروات المهولة عن تخصيص مبلغ - ولو قليل - لاقتناء اللوحات والتماثيل التى يبتكرها الفنانون المصريون أو لمآزرة موهبة أدبية شابة تحتاج إلى رعاية ومتابعة؟
حسب علمى، فإنه ما من ثرى مصرى - باستثناء نجيب ساويرس - التفت إلى ضرورة أن يقوم بدوره الاجتماعى نحو أهل بلده من الأدباء والفنانين، فينشئ على سبيل المثال المعاهد التى تكتشف تميزهم وتنمى مواهبهم، أو يطلق الجوائز السخية التى تحرضهم على تجويد إنتاجهم الإبداعى، فيحصل عليها من يستحق فعلاً! أو يشيّد دار نشر تتولى طبع منجزات الأدباء اللامعين من كتب أنيقة بعد أن يجزل لهم العطاء!
أثرياء زمان
بكل أسف لم يقدم أى من الأثرياء المصريين منذ أربعين عاماً تقريباً على إقامة مشروع يخدم فيه الثقافة والفنون، فى حين أن كثيراً من الأغنياء قبل يوليو 1952 كانت لهم يد بيضاء على نشر الإبداع ورعاية الموهوبين، فمدرسة الفنون الجميلة - على سبيل المثال - أسسها من ماله الخاص الأمير يوسف كمال أحد أفراد الأسرة المالكة عام 1908! هذه المدرسة التى تخرج فيها رواد الفن التشكيلى فى مصر، أمثال محمود مختار وراغب عياد وأحمد صبرى وبيكار. أما أستوديو مصر فقد أنشأه بنك مصر سنة 1936، هذا البنك الذى أطلقه كبير الرأسماليين المصريين آنذاك طلعت حرب عام 1920! والكل يعرف الدور المدهش الذى لعبه أستوديو مصر فى تطوير صناعة السينما واكتشاف المتميزين من رجالها، وأذكر أن المخرج الراحل كمال الشيخ قال لى فى حوار منشور عام 1997 أن حل أزمة السينما المصرية لن يتم إلا إذا أعدنا الاعتبار للمفهوم الذى من أجله أنشئ «أستوديو مصر»!
كذلك تجمع عدد من أغنياء مصر الذين يعشقون الموسيقى والغناء وقاموا بإنشاء معهد الموسيقى الشرقى عام 1915، الذى احتضن المواهب الواعدة آنذاك ومنهم محمد عبدالوهاب! لاحظ من فضلك أنى لا أتحدث عن الذين أصدورا الجرائد والمجلات - وما أكثرهم - وأسهموا بنصيب وافر فى تطوير وإنضاج الصحافة المصرية لأن هؤلاء لم يكونوا من كبار الأغنياء، بل كانوا عاشقين للصحافة ويمتلكون قدراً ما من الأموال، أمثال أولاد تكلا، ومصطفى كامل ومحمد التابعى وروز اليوسف وآل أبو الفتح وآل أمين... إلخ!
الدور المفقود
لو قارنا بين أثرياء زمان وأغنيائنا حالياً لاعترانا الذهول، فالذين دعموا وشجعوا الثقافة والإبداع فى النصف الأول من القرن العشرين كانوا رجالاً يمتلكون المال والذوق والحس الاجتماعى السليم، على الرغم من أن كثيراً منهم لم يكونوا مصريين خالصين، بل كانوا ذوى أصول تركية وشركسية وشامية، أما الذين اغتنوا فى الثلث الأخير من القرن العشرين ومازالوا، فهم مصريون خالصون، راكموا الأموال من عرق الشعب المصرى المكافح، لكنهم بكل أسف يبخلون على هذا الشعب، فلم يحاولوا أن يخضعوا جزءاً كبيراً من هذه الأموال للقضاء على الأمية مثلاً، أو لدعم البحث العلمى أو لتشجيع الذين أدركتهم حرفة الأدب، أو لرعاية أولئك العاشقين للألوان والخطوط.. أقول لم يهتموا بأحد واكتفوا بجمع المال وتخزينه ووضعه فى بنوك أوروبا، لأنهم - بكل أسف مرة أخرى - لا يملكون الذوق ويخاصمون الثقافة وينفرون من الإبداع!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة