1
كنت أظن أن الحكم بإلغاء ترخيص مجلة إبداع، وإحراق بيوت البهائيين فى سوهاج، وتوقف جريدة البديل اليومية، أحداث جليلة تستدعى أن نصطف جميعا ونصرخ قبل أن تضيق الدنيا علينا أكثر، الوقائع الثلاث تؤكد أن أسوارا جديدة فى الطريق، لمحاصرة الارتجال وتقويض دعائم الدولة الحديثة، التى ضحت أجيال من أجل «تلصيمها» لكى تبدو متماسكة وتؤمن بالحوار والحرية والتعددية، أنت أمام مشهد غائم، لاتثق فى أولى الأمر المسئولين عن إشعال الحرائق فى النفوس، لكى ينجح الحزب الحاكم فى اختبارات التدين، أنت لاتثق فى نخبة مشغولة بالحديث الممل عن التوريث وبرامج التوك شو، أنت لا تثق فى الفكر الجديدالذى لم ينجح فى «العملى» ومع هذا يزايد على الفقراء ويتحدث بطلاقة (وبالأرقام) فى أشياء لاتعنى أحدا.
إحدى دوائر محكمة القضاء الإدارى حكمت بإلغاء ترخيص مجلة إبداع (التى تصدرها الدولة) لأنها نشرت قصيدة، رأى صاحب الدعوى أنها تنطوى على تطاول على الذات الإلهية، وبدلا من أن تحكم المحكمة برفض الدعوى لأنها دعوى حسبة ليس لصاحبها مصلحة مباشرة أو شخصية فيها، أو تحكم بعدم الاختصاص فى المحاكمة على جريمة التعدى على الأديان طبقا للمادة 161 عقوبات هو القضاء الجنائى، وخطورة الحكم كما يرى صلاح عيسى فى المصرى اليوم أنه يبتدع قاعدة قانونية لو استقرت لأعطت لكل من يقرأ شيئا لا يعجبه أو يسىء فهمه على صفحات الصحف، أن يلجأ إلى محكمة القضاء الإدارى بمجلس الدولة، فيطلب إلغاء ترخيص الجريدة، لأنها بما نشرته فقدت شرطا من شروط منح الترخيص.
لقد ابتدعت المحكمة قاعدة لا وجود لها فى القانون أو الدستور، تقول إن الترخيص بإصدار جريدة هو ترخيص مؤقت يشترط لاستمراره أن تلتزم الجريدة بالمقومات الأساسية للمجتمع، ويخضع لرقابة القضاء الإدارى الذى يجوز له إلغاء هذا الترخيص إذا ثبت له أن الجريدة قد خرجت عن هذه المقومات، واستندت إليه للحكم بإلغاء ترخيص إبداع، فى حين أن قانون الصحافة 96 لسنة 1996 حدد الحالات التى يجوز فيها إلغاء الترخيص، وهى عدم صدورها خلال ثلاثة أشهر من تاريخ الترخيص، أو فى حالة عدم صدورها بانتظام خلال ستة أشهر، أو إذا تصرف صاحب الترخيص فيه بالبيع، كما أجاز تعطيل الجريدة لمدة ستة أشهر فى حالة عدم تعيين رئيس تحرير لها، ويذكرنا عيسى بحكم استند إلى الحيثيات نفسها صدر فى 4 يوليو 2001 بوقف ترخيص جريدة «النبأ الوطنى» فى أعقاب قضية الراهب المشلوح الشهيرة، ولكن المحكمة الإدارية العليا قامت بإلغاء الحكم فى مايو 2002 وقالت بالنص «إن القانون لا يجيز للمحاكم سلطة إلغاء تراخيص الصحف».
أنا هنا لا أدافع عن القصيدة (التى أراها ضعيفة فنيا) ولا عن حلمى سالم الشاعر الكبير، ولا عن مجلة إبداع محدودة التأثير والخيال، ولكنى أشعر بخوف حقيقى على مهنة الصحافة وعلى حرية الإبداع والتفكير، ومع سحر الجعارة التى طالبت فى «الفجر» قبل أن نحاسب «ثقافة التكفير» علينا أن نحاسب أولا النخبة على تفككها وصراعاتها، ومكاسب الانضمام إلى خندق الثقافة الرسمية، وأن نسأل: من الذى سمم المناخ الثقافى.. دعاوى الحسبة أم فساد النخبة؟.
2
أما إحراق بيوت البهائيين فى قرية الشورانية فهذا يعنى أن الدولة فشلت فى القيام بدورها، وأن السلام الاجتماعى الهش الذى كان يغفر لها بات مهددا هو الآخر، وأخطر ما فى الأمر أن أمين شباب الحزب الوطنى فى القرية تباهى وافتخر بأنه شارك فى إحراق المنازل، أى شارك فى جريمة مكتملة الأركان طبقا لقانون العقوبات، وكنت أظن أن الخيال الليبرالى «اللى مغرق الصحف» سيتحفز للدفاع عن «مصريين» تم تشريدهم فى بلدهم المسلم المتسامح «لأن الدستور يكفل للبهائية شأنها كشأن أى ديانة أخرى حرية الاعتقاد ويكفل الحماية القانونية لهم»، كما جاء فى البيان الفاتر للمجلس القومى لحقوق الإنسان، والذى أضاف: «ماحدث ينذر بتداعيات سلبية تنال من جوهر الديمقراطية وسيادة القانون وهما من أركان نظامنا الدستورى والسياسى»!
ولا شك أن مجلة أخبار الحوادث هى أفضل مطبوعة تناولت الحرائق، وتعاملت مع الموضوع بمسئولية، دفعت الروائى الكبير محمود الوردانى إلى السفر بنفسه إلى سوهاج ليكتشف أنه لكى يقوم بعمله لابد أن يأخذ تصريحا من مدير الأمن ولا أحد غيره!!
فى هذا التوقيت اختفت جريدة البديل الحرة، بسبب الأزمة المالية، وبعد أن خسرت 17 مليون جنيه فى 21 شهرا، ورغم عمرها القصير، كانت الأقرب إلى القلب والروح، لأنك تعرف كل من فيها، وتعرف أنهم مخلصون وموهوبون ويحبون القارئ ولا يضحكون عليه ولا يزايدون عليه، وتعرف أيضا أنهم محاصرون، لأنهم متمسكون بالثوابت الوطنية، فى الوقت الذى يسعى فيه المعلنون الكبار إلى هدم هذه الثوابت (على حد تعبير نصار عبدالله فى الفجر)، البديل اليومى حلم آخر جميل ضاع من اليسار المصرى، ولكن هذه المرة لأسباب خارجة عن إرادته!