كان البائع ينادى على بضاعته فى مترو الأنفاق: "ابن باز والعثيمين والتميمى بجنيه واحد.. بجنيه واحد بس اقرا يابيه اقرا ياباشا التلاتة، وهبة الكتاب جنيه واحد"
وطبعا لم أفوت الفرصة دفعت الجنيه وأخذت "الثلاثة" لأرى ما الذى أوصلهم إلى المترو.. حتى فى المترو!
كان الكتاب عبارة عن ثلاث رسائل، الأولى عن مناسك الحج والعمرة لابن صالح العثيمين، والثانية "الأصول الثلاثة لابن سليمان التميمى، والثالثة "العقيدة الصحيحة والدروس المهمة" لابن باز، أول ما لفت نظرى فى الكتاب أنه مطبوع داخل السعودية، مما يعنى أن دخوله وتوزيعه فى مصر لابد وأن يمر على الهيئات الرقابية، كما لفت نظرى أن الكتاب يتم توزيعه مجانا. لأول وهلة قلت لا بأس بكتاب مجانى يرشد الناس لتأدية مناسك الحج والعمرة، جزا الله واضعيه وناشريه وموزعيه مجانا خيرا، وعندما دققت فى متن الكتاب اكتشفت أن رسالة العثيمين حول مناسك الحج والعمرة ما هى إلا مقدمة أو معبر للرسالة الأساسية المراد توصيلها للمصريين البسطاء من ركاب مترو الأنفاق، عبر فكر التميمى وابن باز، الفكر الوهابى المتطرف والكاره للنموذج الثقافى المصرى، يعنى باختصار مشروع مدعوم لغسيل الدماغ للجميع، لا أدرى كيف فات على الأجهزة الرقابية.
مؤلفو الكتاب الثلاثة شبعوا موتا، مما يعنى أن هناك من يجمع الشذرات ويصنف منها كتبا موجهة على غرار "مبادئ الاشتراكية" أو "ولاية الفقيه" وغيرهما من الكتب الموجهة، ويهدف إلى فكر معين يريد نشره على أوسع نطاق بين المصريين، فماذا يريد أن ينشر؟
يستشهد ناشرو الكتاب بتطرف ابن باز والتميمي وهجومهما الحاد على كل ما يخالف الوهابية، فهما مثلا يعتبران كل ما يخالفهما من المذاهب فى عداد العقائد الشركية والكفرية بحسب تعبيرهما، ويعتبران محبة المصريين لأولياء الله أو الاحتفاء بهم فى طقوس الموالد الشعبية نزوعا إلى التوسل بالأغواث، بل وضع هذان المتطرفان الشعب المصرى كله فى صفوف المشركين شركا أكبر، على اعتبار أن المصريين يرتكبون "دعاء الأموات والأصنام والاستغاثة بهم والنذر لهم والذبح لهم"، وهكذا وجدت نفسى وأبى وجدى وكل أقاربى وجيرانى بين صفوف المشركين.
كما وضع ابن باز والتميمى التدين المصرى السمح فى مرتبة العقيدة غير الصحيحة ومجمل عمل المصريين فى نطاق العمل غير المقبول، على اعتبار أن المصريين إما من المتصوفة أو من الذين لا يرون فى التصوف عيبا.
ليس صحيحا إذن أن نظام آيات الله فى إيران هو وحده الذى سعى جاهدا لتصدير أفكاره وثورته إلى المحيط العربى وخصوصا مصر، فالنظام السعودى بدوره، عمد إلى تصدير أفكاره ونمط حياته ونموذجه الثقافى إلى سائر المحيط العربى أيضا، وكانت مصر كالعادة هى القلب المستهدف أولا.
فى اعتقادى أن الصراع الثقافى بين الوهابية والطريقة المصرية فى محبة الحياة لن ينتهى إلا بنتيجة من اثنتين، إما أن تنتصر الوهابية انتصارا نهائيا بأن نرى المطوعين بسحنهم الغبراء يمسكون عصيهم ويسرحون فى شوارع القاهرة يطاردون الناس، أو تنتصر الحياة المصرية بأن يعود المصريون إلى أنفسهم وإلى تكوينهم الثقافى الفريد الذي فرطوا فيه خلال الثلاثين سنة الماضية، عندما هجر العمال المهرة حرفهم بحثا عن دنانير الصحراء، وهجر الفلاحون الذين علموا الإنسانية الزراعة أراضيهم من أجل حفنة ريالات أنفقوها على العلاج من الفشل الكلوى والفشل الاجتماعى والمهنى،
الناس فى مصر تحمل على ظهورها وفى وعيها، تاريخا طويلا من محبة الحياة ومن التدين العميق، ولها طقوسها الفريدة فى التقرب إلى الله وفى تأويل النصوص الدينية تتسم بالسماحة لا بالقسوة، وتتسم بالفهم لا بالتشدد المريض، منذ دخل الإسلام مصر واستوعبه أهلها بمحبة المؤمنين بالفطرة.
السماحة والتدين الفطرى والثقافة التى تميز الشعوب صانعة التاريخ، مكنت مصر من استيعاب حركات الشطط والتطرف التى طرأت، وتسللت إلى داخل نسيجها الثقافى، وأظن أن السماحة والثقافة ستمكنها من الانتصار على شطط الوهابية والوهابيين، حتى لو تسللوا إلى عربات مترو الأنفاق.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة