انتشرت فى السنوات الأخيرة ظاهرة ثقافية أشبه بظاهرة أنفلونزا الطيور، ألا وهى ظاهرة "النقد الكروى فى صحافة التابلويد" التى ابتليت بها حياتنا الرياضية والكروية، انطلق جيش عرمرم من الشباب المتحمس يصب "إبداعاته" فى النقد الرياضى ومع ازدهار تجارة كرة القدم التى يسمونها صناعة، وظهور الاحتياج إلى السماسرة ومروجى الإشاعات فى الأندية حتى انطلق هذا الجيش العرمرم يحمل كل فرد من أفراده علم النادى الذى يشجعه بيده اليسرى، حاملاً فى يده اليمنى قلماً يسود به الصفحات، ويصب تعصبه على رأس النادى المنافس ناعتاً لاعبيه وإدارته ولاعبيه بأقذع الألفاظ والصفات متلفحاً بعباءة النقد الرياضى الفضفاضة التى باتت تتسع للجميع.
وحتى يجد هذا الجيش العرمرم لنفسه مكاناً ووعاء يصب فيه "إبداعاته"، فكان لا بد من ظهور وعاء يليق به ويليق هو به، فانطلقت ظاهرة "صحافة التابلويد"، حيث أصبح أعضاء هذه الجيش العرمرم جيشاً من الشباب الذى يبحث لنفسه عن مكان يجد فيه لقمة عيش لا يتطلب الحصول عليها أية موهبة سوى الكذب وتلفيق الأخبار والحوارات الممجوجة، فشرعوا فى ارتداء قفازات الوطنية للعن هذا المدرب الأجنبى أو صب جام غضبهم على لاعب موهوب فى نادٍ منافس، إما لتحطيم هذا اللاعب أو محاولة النيل من نجاح إدارة ناديه، وتصدير الخيبة إلى هذا النادى حتى يتساوى الجميع فى الفشل, حيث حفلت صحافة التابلويد بالكثير الكثير من هذا الغثاء.
دعونا نتحدث عن صحافة التابلويد (Tabloid)، والمقصود بها أنها تعنى المركز أو المكثف أو المختصر المفيد، وصحيفة التابلويد تختلف عن غيرها من الصحف التقليدية التى نعرفها مهنياً باسم برودشيت (Broadsheet)، وهو الحجم المعروف الذى تصدر فيه الصحف فى مصر (56 سم طول فى 38 سم عرض عادة)، أما صحيفة التابلويد فإنها تتميز بقطعها الصغير والمستطيل غالباً (حجم التابلويد عادة 38 سم طول فى 26 سم عرض)، وبتصميم بنيتها بحيث يعرفها القارئ من أول نظرة، وقد برز استخدام كلمة التابلويد Tabloid فى انجلترا عام 1840م، وجاءت لتخدم الطب، فهى كانت تشير إلى عملية تركيز عنصر الدواء فى هذه الحبة أو تلك، وفى العام 1900م اقتبسها الصحفيون - كما يقتبسون غيرها من الكلمات - وجعلوها تشير إلى صحافة تكثر من استعمال المختصرات خدمة للقارئ، وعادة تكون أخبارها حسية ومثيرة، وتميل إلى معالجة الموضوعات المثيرة أو معالجة أى موضوع من زاوية مثيرة للقارئ حتى لو كانت ليست ذات صلة بالموضوع الذى تعالجه، وهى زاوية رخيصة بطبيعتها لأنها تعتمد بشكل أساسى على إثارة الغرائز.
ظن مصنفو هذا النوع من الصحافة، أول الأمر، أنه يجتذب مسافرى السكك الحديد وقطارات الأنفاق والحافلات لأن الصحف التقليدية تأخذ حيزاً بين أيدى القارئ، وتجعله يضايق غيره, أو ربما تطفل غيره من جيرانه فى مقاعد القطار على قراءة الجريدة التى اشتراها الراكب لنفسه، وقد أدى هذا بالمواطن الانجليزى الذى يريد أن يحافظ على مستواه المحترم إلى عدم اقتناء صحف التابلويد حتى لا يصنفه جيرانه ومعارفه ضمن الباحثين عن الإثارة الرخيصة, وهكذا فقد ولدت الإثارة الرخيصة فى صحافة التابلويد فى العالم كله.
انتقلت إلينا هذا النوع فى السنوات الأخيرة، فمثلا أحدهم وجد أن موضة الهجوم على محمد أبو تريكة مناسبة لتحقيق غرضه، فانهال على اللاعب المهذب بغير وجه حق وبدأ بلوى الحقيقة التى تقول بتعاطف أبو تريكة وتبرعه لمستشفى سرطان الأطفال، فعاب على أبو تريكة استخدامه للأطفال المرضى بالسرطان ليظهروا معه فى القناة الفضائية لعمل دعاية تليفزيونية له، ولو قلب هذا الأمر على وجهه الحقيقى لعرف أن ظهور هؤلاء الأطفال المرضى هو استخدام شعبية أبو تريكة وحب الشعب المصرى له لعمل دعاية للمستشفى الذى يسكنه هؤلاء المساكين، وتحفيزاً للغير للتبرع والتعاطف مع أكبادنا المريضة فى هذا المستشفى الرائع، فالحقيقة هى استخدام أبو تريكة فى عمل دعاية للمستشفى وليس استخدام الأطفال المرضى فى عمل دعاية لأبو تريكة، وقد تبعه بعد ذلك كل لاعبى الكرة وكل الأندية، ولكنه منطق صحافة التابلويد التى تجبر الجميع على السير فى طريق الإثارة الرخيصة بمنطق المشجع المتعصب الذى يخفى الطوبة والصاروخ الحارق فى طيات ملابسه.
وقد ولدت هذه الصحافة ظاهرة النقد الكروى الفهلوى، وتوزعت العدوى على كل صحف التابلويد بلا استثناء، حيث نجحت فى استخدام بعض النقاد الرياضيين المعروف عنهم الكفاءة والاحترام، فراح كل منهم يكتب مقالة هنا أو هناك لتحسين صورة صحيفة التابلويد لكن سوف تبقى هذه الصحف محكوماً عليها باستخدام الإثارة الرخيصة ومغازلة غرائز الجهل والتعصب ونشر الكراهية والترويج لقيم تدعو للتمرد على المدير الفنى لمجرد الجلوس احتياطياً على الدكة، أو التغير لأسباب تكتيكية بقصد إثارة الفتنة بين لاعبى الفريق الواحد غير مدركين، أن الترويج لمثل هذه القيم سوف يكتوى بنارها المنتخب الوطنى ولاعبوه ومديره الفنى وإدارته، بحيث تنتقل إليهم قيمة التمرد التى روجت لها هذه الأقلام التى راحت تنشر قيمها كما تنتشر أنفلونزا الطيور من الطيور المريضة والحاملة للفيروسات إلى الطيور السليمة، أو التى كانت سليمة فى يوم من الأيام.