التحرش الفكرى آفة جديدة لاتقل خطورة عن التحرش الجنسى، فكلاهما انتهاك للآخر، وكلاهما فعل خارج وشاذ، قد ينتهى "بالاغتصاب" الفكرى، وبالتأكيد سيكون المقدم عليه مريضا نفسيا.
التحرش الفكرى حالة من الجدل غير المقنن أو المبرر، فتجده لايخلو من الألفاظ الخادشة للعقول والأفكار، وغالبا ما يلجأ البعض فى تبريرها بوجهات نظر قائمة على الفكر المغلوط.
المثير للجدل هنا أنه حتى الآن لم يفكر أحد، فى سن تشريع يحمى أصحاب الآراء والأفكار مهما كان اختلافها عن العام والسائد، تاركين مساحة لهؤلاء أن يوزعوا التهم والألقاب والسباب والتشكيك فى كل كبيرة وصغيرة دون رادع، منتشرين انتشار النار فى الهشيم، رغم نجاح مؤسسات المجتمع المدنى فى ترسيخ عقاب للشخص الذى يقوم بفعل التحرش الجنسى وسن قانون لمنعه وتحجيمه.
عجبا لهؤلاء، من يتربصون لكل بارقة فكر جديدة تحاول إجبار العقل على التفكير وأعماله، ذلك العقل الذى ميز الله به الإنسان على باقى مخلوقاته، متلهفين ليخرجوا شاحذين سيوف مرضهم اللعين، معلنين عن وجودهم بأى جملة ربما من كلمتين، وغالبا من الصحة، هل لأنهم يودون فقط حب الظهور. أم أنهم أفراد تجمعهم هواية الجلوس على الإنترنت، يبدو للوهلة الأولى أنهم جماعات اتفقت فيما بينهم أن يكون الكلام أحد أسلحتهم الخاوية من العلم والمعرفة باستثناء السباب والشتائم... لكن الخطورة الحقيقية تكمن فى أن يكونوا معديين لنقل الفيروس لحساب مؤسسات التخلف المدنى.
فى جرائم التحرش الجنسى أعاد الأطباء النفسيون بعض المتحرشين إلى المرضى بحب الظهور أو لفت الانتباه لهم، لأنهم يعرفون أنهم كم منسى ومهمل وسط العديد من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، التى تجعل منهم ضحايا البطالة والفقر والجهل.
الكثير تساءل حول إمكانية أن يكون فشل المتحرش فى أن يتزوج وراء إقدامه على التحرش بإحدى الضحايا.. أعلم أن الأمر يبدو فى ظاهره مختلف لكن الواقع يؤكد أن هؤلاء المتربصين للكتاب وأصحاب الآراء هم أيضا فشلوا فى أن يكون لهم منبرهم الخاص بهم، وفشلوا فى أن تكون لكلمتهم صدى عند البعض، وبالتحديد فشلوا فى إقامة علاقات زوجية حقيقية فبحثوا عن ضحية ليمارسوا فيها فعل الفحشاء، فهؤلاء الذين يلقون التهم والسباب يجدون من يقف فى وجههم ويرد عليهم بالحجة والبرهان ويضعهم فى مواجهة ذاتية مع أنفسهم ليعرفوا أنهم فشلوا فشلا ذريعا فى التزاوج والتواجد.
أصاب بالفزع حين أجد شخصا يحاول أن يقول بصوت عال، أنا هنا، فيمر مرور الكرام على موضوع أو مقال ثم يتصيد كلمة وينصب عليها الشراك ويبنى المقدمات والنهايات ويطلق الأحكام.. فهو حقا لم يفهم ولم يعى ما المغزى من الكلمات أو حتى الهدف من وراء المكتوب.
التحرش الفكرى أكثر خطورة فى مجتمع يعانى من التدهور فى كافة أركانه يحاول هدم القوة الناعمة الوحيدة التى وهبها الله لأصحاب الأقلام الواعية التى تحاول جاهدة البحث واستخدام العقل والأسلوب العلمى لرصد حقائق، قانون النعام يمنعها.. نعم قانون النعام البطل الحقيقى الذى يحرك المتحرش الفكرى فهو يخاف ويطبق قانونه بحذافيره، البند الأول يرى المتحرش الصائد جيدا ويعرف أنه يملك القوة والسلاح فلا يحاول حتى مواجهته، البند الثانى يدير وجهه للجهة الأخرى محدثا نفسه أن الصائد لا يراه ثم يدفن رأسه فى الرمال إمعانا فى معرفة الحقيقة وغض البصر عنها. وغالبا ما يكون المتحرش الفكرى على أهبة الاستعداد حين يرى أحد المقالات أو الموضوعات التى تكسر حاجز الصمت وتتحدث عن مواضيع تدور فى فلك الدين أو الجنس.
فتجد من يجعلون من أنفسهم دور المدافعين عن الدين أو القيم الوجه الفاضل للجنس، لا أعرف هل هم متحدثون باسم الله أم أنهم جنود الله فى الأرض يحملون سيف التكفير والاتهام على عقول التنويريين، فكما قال جورج لوكادج "الأغنياء فقط.. والفقراء فقط هم الذين يحتاجون إلى الدين"، فالأغنياء يملكون كل شىء ماعدا الدين فيبحثون عنه طمعا فى الجنة، والفقراء لايملكون أى شىء فيلجأون للدين باعتباره الشىء الوحيد الذى يملكونه، وهذا بالضبط حال المجتمع المصرى، فالأغنياء فيه ينصبون أنفسهم فقهاء يوظفون الدين فى كل شىء، ففى مجتمع لا توجد فيه بدائل للحياة أمام البشر، والمتاح منها محدود للغاية تبدأ الناس فى نسج نهاية رواية صنع الله إبراهيم الذى أكل فيها البطل نفسه، ويظل الناس يأكلون فى أنفسهم ويدورون فى حلقة مفرغة دون نهاية باسم الدين، ولا يرون طريقا لتلمس السعادة إلا التكفير للوصول إلى الله وحمل لقب متحرش فكرى مع سبق الإصرار والترصد.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة