أحمد عبدالمعطى حجازى

الإنسان شيطانا.. والشيطان إنسانا!

الخميس، 14 مايو 2009 09:44 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ونحن نتحدث عن حرية التفكير والتعبير والاعتقاد، وندافع عن حقنا فيها، ونتحاور فيما بيننا حول ما يجب أن نلتزم به فى ممارستنا لهذا الحق، نحتاج لمراجعة التجارب التى خضناها وخاضها غيرنا من البشر، والمعارك التى دخلناها وانتصرنا فى بعضها على القوى المعادية للحرية، وانهزمنا فى بعضها الآخر. نحتاج لمراجعة هذا التاريخ ومعرفة الظروف والشروط التى ساعدتنا على أن ننتصر فى سعينا لامتلاك هذه الحرية وإقرارها والتمتع بها، والظروف والشروط التى ساعدت خصومنا على الوقوف فى وجهنا ومصادرة حقوقنا.

وكنت قد عدت فى الأيام القليلة الماضية أطالع ديوان الشاعر الفرنسى شارل بودلير «أزهار الشر» فى أعماله الكاملة، وما نشر معها من نصوص وتوضيحات حول المحاكمة التى تعرض لها هذا الشاعر هو وديوانه فى أواسط القرن التاسع عشر، وبالتحديد فى عام 1857، واتهم فيها بالإساءة إلى المشاعر الدينية والأخلاق الفاضلة فى عدد من قصائد الديوان من بينها «إنكار القديس بطرس» و«صلوات الشيطان» و«لسبوس» و«النساء الملعونات»، و«نبيد السفّاح»، وغيرها.

وقد قرأت هذه القصائد فى نصها الفرنسى فذكرتنى قصيدة بودلير عن الشيطان بقصيدة العقاد «ترجمة الشيطان». والحقيقة أن القصيدتين كلتيهما عن الحرية. لأن الشيطان الذى كان فى العصور الماضية مجرد رمز دينى للخطيئة والشر والسقوط، تحول فى العصر الحديث فأصبح رمزا للتمرد والتحدى والحرية.

وإذا كان الشيطان فى الماضى قد أصابه الغرور فظن نفسه نِدًّا لله عز وجل، وخرج عن طاعته فطرد من السماء، وسقط إلى أسفل سافلين، فالشيطان فى العصر الحديث يرمز للإنسان الذى ثار على النظم المستبدة وعلى المؤسسات الدينية التى تحالفت معها، فارتبطت السلطة الدينية بالطغيان، وارتبطت الحرية بالخروج على السلطة الدينية التى اتهمت الخارجين عليها بالكفر، وطاردتهم، وصادرت أعمالهم. لكن البشر الذين دافعوا عن حريتهم وضحوا فى سبيلها بأرواحهم استطاعوا فى النهاية أن يحطموا معاقل الطغيان ويفصلوا بين الدين والدولة.

ونحن نعرف أن شارل بودلير عاش حياته فى مناخ سياسى عاصف متقلب. ولد فى السنوات التى كانت فيها فرنسا وأوروبا كلها تتفجر بالثورات التى تلد الثورات الحليفة والثورات المضادة التى بدأت بالثورة الفرنسية وما أعقبها من أحداث مزلزلة وحروب طاحنة، انخرط فيها الأوروبيون جميعا، وفى المقدمة الفرنسيون الذين اجتاحوا العالم رافعين رايتهم المثلثة وشعارهم المثلث! الحرية، والإخاء، والمساواة. حتى أنهكتهم حروبهم المتواصلة، واشتدت عليهم قبضة الإمبراطور المنتصر، واجتمع عليهم الإنجليز، والألمان، والروس، والنمساويون فردوهم على أعقابهم، وقضوا على إمبراطوريتهم الأولى، فعادت الملكية، وعادت بعدها الإمبراطورية الثانية ليشتد الصراع بين القوى السياسية المحافظة ورجال الدين المتحالفين معهم وبين المثقفين وأنصار الجمهورية والقوى المتحررة والشعبية بشكل عام.

وفى تلك المرحلة التى امتدت حوالى عشرين عاما من خمسينيات القرن التاسع عشر إلى سبعينياته اضطهد الفكر الحر، وصودرت الصحف، وحوكم عدد من الكتاب والشعراء، وآثر بعضهم حياة المنفى. ومن هؤلاء فولبير، وبودلير، وبرودون، وفيكتور هيجو الذين نسىء فهمهم إذا قرأنا ما كتبوه بعيدا عن هذا المناخ العاصف المتفجر الذى عاشوا فيه، وكتبوا، ودافعوا عن حقهم، وحق مواطنيهم، وحق الناس جميعا فى الحرية.

هذا الولاء للحرية لم يكن مجرد موقف سياسى، وإنما كان إيمانا بعصر جديد وحضارة جديدة يصبح فيها الإنسان سيد مصيره، وينتزع فيها حقوقه من قبضة الحكام ورجال الدين المستبدين. ومن هنا تبلور رمز الشيطان فى أدب القرن التاسع عشر الأوروبى تعبيرا عن التمرد والخروج على رموز الطغيان.

ولم يكن شارل بودلير هو الشاعر الفرنسى الوحيد الذى اهتدى لهذا الرمز ونظم فيه بعض قصائده، وإنما كان الشيطان موضوعا كذلك لقصيدة طويلة نظمها فيكتور هيجو بعنوان «نهاية شيطان» وهى تزيد عن ستة آلاف بيت. بالإضافة إلى قصائد أخرى عن الشيطان نظمها شعراء أوروبيون آخرون منها قصيدة «الشيطان» للشاعر الروسى ليرمونتوف، وتقع فى حوالى ألف ومائتى بيت، وقد ترجمها الشاعر رفعت سلام إلى العربية مع قصائد أخرى للشاعر وصدرت كلها فى مجموعة واحدة.

ومن الملاحظ أن هذه القصائد نظمت كلها فى تلك المرحلة التى أشرت إليها، أى فى العقدين الخامس والسادس من القرن التاسع عشر. فيكتور هيجو بدأ قصيدته فى أول الأربعينيات وأكملها فى أواسط الخمسينيات.

وفى أول الأربعينيات أيضا نظم ليرمونتوف قصيدته. أما قصيدة بودلير فقد ظهرت فى أواخر الخمسينيات وبعد هذا التاريخ بستين عاما تقريبا نظم شاعرنا عباس محمود العقاد قصيدته «ترجمة شيطان» التى لا أشك فى أنه استوحاها مما قرأه عن الشيطان فى الشعر الأوروبى، وخاصة قصيدة فيكتور هيجو التى أعتقد أن العقاد قرأها فى ترجمة إنجليزية.

والعقاد رومانتيكى مثله مثل فيكتور هيجو، وبودلير، وليرمونتوف، وهو لم يكن مجرد شاعر وإنما كان مثلهم أيضا مناضلا صلبا يدافع عن الحرية، ويقف فى صفها، ويخاصم أعداءها، ويتحمل السجن والاضطهاد فى سبيل الدفاع عما يعتقد.

ومع أن الموضوع مشترك فى القصائد التى نظمها هؤلاء الشعراء فى الشيطان فلكل منها فكرتها المستقلة «قصيدة فيكتور هيجو» تقدم لنا سيرة متخيلة للشيطان بعد أن طرد من العالم السماوى. لقد كان قريبا من الله، بل كان أقرب الملائكة للخالق جل شأنه. لكن هذا القرب أصابه بالغرور فجعل يساوى نفسه بخالقه وخرج عن طاعته، ولهذا طرده الله شر طردة، وقذف به إلى أسفل سافلين عقابا له على تمرده، وجعله شرا مطلقا بعد أن كان خيرا مطلقا، ومسخه وحوله إلى كائن قبيح لأن الشر قبيح، ولأن القبح شر.

وهكذا سقط الشيطان، وتقلب فى العذاب، وتصارع فيه ما بقى من الخير القديم وما صار فيه من الجحود والإنكار وأخذ يتذكر ما كان فيه قبل السقوط فيحن إلى سيرته فى السماء وينتظر من الله أن يغفر له، لأن الله لا يتخلى عن خلقه إلى الأبد، وإنما يعاقبهم جزاء ما اقترفوا. ثم يعفو عنهم. وكانت ريشة مضيئة من جناح الشيطان قد طارت عنه خلال سقوطه ثم تحولت فى نهاية القصيدة إلى ملاك أنثى، تماما كما ولدت حواء من ضلع آدم. تلك هى ملاك الحرية الذى سيقود الفرنسيين إلى الثورة التى حطموا فيها الباستيل وتحرروا إلى الأبد!

هذا الصراع بين الخير ممثلا فى ملاك الحرية والشر ممثلا فى كائن غامض سماه فيكتور هيجو إيزيس، يتكرر على نحو آخر فى قصيدة الشاعر الروسى ليرمونتوف الذى يقدم لنا الشيطان وقد وقع فى غرام راهبة فاتنة فقدت زوجها قبل أن تزف إليه فدخلت الدير لكنها ظلت تحن للحب. وهكذا أسلمت شفتيها للشيطان.

فى الشيطان هنا شىء إنسانى يتمثل فى الحب. وفى الإنسان شىء يجمع بينه وبين الشيطان، وهو التمرد، وتحدى القيود، والرغبة فى التحرر.
وفى المقالة القادمة نتحدث عن قصيدة بودلير وقصيدة العقاد!






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة