قبل أن يزايد علىّ أحد: أنا أهلاوى من ظهر أهلاوى نشأت وترعرعت وربيت أولادى الذين يربّون أحفادى فى جنبات وطرقات وملاعب النادى الأهلى كما أنى صالحاوى منذ أكثر من خمسين سنة وليس بينى وبين مجلس الإدارة الحالى إلا كل احترام وإعجاب وتقدير، ولكنى أعرف أن الإسماعيلية إن لم تحصل على بطولة الدورى هذا العام فلن تحصل عليها قبل عشر سنوات، لأن حالة فريق الأهلى حاليا لا تتكرر إلا كل عشر سنين، فمتى تحصل الإسماعيلية على بطولة الدورى إن لم تحصل عليها الآن؟
وأنا أتمنى أن تحصل الإسماعيلية على بطولة الدورى هذا العام من أجل ذكرى امرأة واحدة وهذه المرأة بالنسبة لى كانت أجمل امرأة رأيتها فى حياتى وفى ستين عاما لم أحب امرأة - غير أمى - أكثر منها وما تذكرت أمى رحمها الله إلا وتذكرت وجه هذه المرأة فيخفق قلبى بنبضات حب وتنداح كل الأشواق فى كيانى وتغمرنى حالة من الحنان الدافق والسكينة وأحس بكفها الرقيق فوق رأسى وأجد متعة لا نهائية وأنا أجتر ذكرى اللحظات التى رأيتها فيها وملّست بكفها الحنون فوق رأسى, كان عمرها – كما تظهره التجاعيد – ما بين الخمسين والستين عاما وكنت فى الثانية والعشرين من عمرى وكان هذا فى عام 67 وتحديدا فى شهر يونيه الكئيب وبتحديد أكثر فى صباح اليوم الرابع من أيام النكسة، حيث كنت مجندا فى الجيش وفى حالة الانسحاب العشوائى من سيناء وقضاء ثلاثة أيام بلياليها فى الصحراء بالجوع والعطش إلى أن وصل الجنود الشاردون إلى مشارف الإسماعيلية بعد عبور قناة السويس سباحة أو بالمعدية أو بعض قوارب الأهالى, كنت جائعا بشكل جنونى وعطشان بشكل أكثر جنونا وقد تقيحت قدماى داخل الحذاء المبرى وثقبت حبيبات الرمال القدمين فتقيحت بالدم والصديد من السير المتواصل عبر منحنيات ومدقات ورمال مسافة قد تزيد عن مائتين وخمسين كيلو مترا.
وما إن وجدت نفسى على أرض ليست رملية حتى خلعت فردتىّ الحذاء والجورب المدمى وسرت حافيا إلى أن رأيت امرأة عجوز – عرفت بعد ذلك أن اسمها عائشة السواركية - وإلى جوارها طفلة صغيرة وعرفت بعد ذلك أنها حفيدتها وكانت إلى جانبها قفة كبيرة وصفيحة ماء وعلبة سلمون فارغة يشرب بها بعض الجنود الشاردين الذين تناول عائشة كلا منهم رغيفا كبيرا وقطعة جبن وتصورت أنها تبيع الطعام للجنود ولما لم يكن معى أى نقود بالطبع فقد اكتفيت بملء الكوز بالماء من الصفيحة وشربت ولعابى يحاول أن يسيل لكن جفاف حلقى منعه، إلا أن خالتى عائشة كما يناديها الجنود أشارت إلىّ بالجلوس إلى جوارها ففعلت، فملست بكفها على رأسى كما لو كانت ترفع عنى عار الهزيمة الذى كان يتملك كيانى قبل أن تهدئ من روعى، فاستسلمت للحنان فى كفها وانسابت دموعى فى بكاء صامت لأول مرة منذ بداية الحرب ومدت عائشة السواركية يدها لى برغيف كبير وعليه قطعة من الجبن القريش وقطعت ثمرة قثاء كبيرة إلى نصفين وناولتنى أحد النصفين فأكلت أحلى رغيف خبز فى حياتى وأطعم وأحلى وألذ قطعة جبن قريش ونصف قثاية لم أذق مثل حلاوتها فى حياتى، بعد ذلك وبعد أن أكلت كاد النوم يداهمنى، إلا أن عائشة هزتنى فى أمر صارم صائحة: "قم يا دفعة نام فى معسكر الشاردين", فقمت وصحبنى بعض الجنود والأهالى إلى معسكر الجلاء الذى أطلقوا عليه يومها معسكر الشاردين، حيث كان الصليب الأحمر يستقبلنا بعلب الطعام المحفوظ وعلب العصير فكان من نصيبى علبة بازلاء باللحم وثلاث علب من عصير الجوافة والبطاطين والأوراق والأقلام حتى نكتب الرسائل لذوينا فيما تتكفل راهبات الصليب الأحمر بإرسال هذه الرسائل لأهالينا.
ومرت السنون وأصبح لدى سيارة وأولاد فكنت أصطحب أبنائى – ومازلت – فى رحلة شهرية إلى الإسماعيلية وحتى الآن أجد متعة فى أن أحكى لأبنائى عن عائشة التى كتبت عنها بعد ذلك فصلا فى روايتى "قمر متلا" والغريب أن أبنائى لا يملون منى كلما حكيتها لهم ويحفظون كل شبر من متحف آثار الإسماعيلية الذى يعد من أقدم المتاحف فى مصر وقد شيده المهندسون العاملون فى الشركة العالمية للملاحة البحرية (هيئة قناة السويس) عام 1911، ويعتبر نواة جميلة لمتحف إقليمى، وطابع المتحف المعمارى يأخذ شكل المعبد ويتميز بالبوابات والنوافذ التى تعلوها الجعارين أسفل الكورنيش، وندرة ما يحتويه من قطع أثرية، حيث يضم قطع أثرية لكل العصور بدايةً من العصر الفرعونى إلى عصر محمد على، وقد تم افتتاح المتحف للزيارة لأول مرة فى عام 1913 وأصبح أبنائى – وهم أعضاء فى النادى الأهلى – يعشقون الإسماعيلية وينتظرون كل أول شهر لتناول الغداء فى الحى العربى وهو الحى الذى كان يسكنه المصريون الذين شاركوا فى حفر قناة السويس وأيضا حفر ترعة الإسماعيلية.
و قد كان هذا الحى شهيرا ببطولات المقاومين المصرين ضد الوجود الإنجليزى والفرنسى فى المدينة واشتهر هذا الحى بالبنايات التقليدية الشعبية والمعمار الإسلامى. ويضم مناطق العرايشية، والمحطة الجديدة أو يجلسون معى على أحد مقاهى الحى الغربى وهو على النقيض تماما من الحى العربى، فقد كان مصمما جغرافيا لكى يكون مماثلا لباريس، حيث أطلقت على المدينة اسم "باريس الصغيرة", و قد سكن فى هذا الحى الأجانب وقادة شركة قناة السويس، ويتجلى فى مظهره حتى الآن كثرة الأشجار والتصميم المعمارى الفرنسى والغربى بوجه عام. ويطلق عليه الأهالى حى الإفرنج ولقد تطورت مدينة الإسماعيلية تطورا ملحوظا فى السنوات الأخيرة فى أعقاب زيادة أعداد السكان، فتم إنشاء نفق جمال عبد الناصر فى مركز المدينة، كما تم إنشاء مدينة المستقبل لاستيعاب الزيادة السكانية وهى تقع على الطريق الصحراوى بين القاهرة والإسماعيلية ومن ظواهر تطورها أيضا بناء شبكة الأوتوبيسات، حيث ظلت الإسماعيلية مشتهرة بركوب الدراجات والتاكسيات إلى بدايات العام 2000 كما بدأت المحافظة فى تجديد وبناء كبارى جديدة والتى تطل على ترعة الإسماعيلية وقد ارتبط مع أسرتى بعلاقات المودة والصداقة مع بعض الأسر الكريمة فى الإسماعيلية ولطالما حكيت لهم ولأبنائهم عن السيدة عائشة السواركية التى أصبحت بالنسبة لى ولأسرتى بمثابة الرمز الخالد لمدينة الإسماعيلية وأهلها الكرام، وللعلم فإن معظم سكان المدينة ليسوا من سكان الإسماعيلية الأصليين قبل عام 1967، حيث هجر السكان الأصليون البلدة بعد نكسة 1967 واحتلال القوات الإسرائيلية لشرق المدينة على قناة السويس ولكن عند العودة مرة أخرى بعد معركة العبور الخالدة فى عام 1973، اختلط الكثير من أهل المحافظات المجاورة مثل الشرقية بالعائدين، لبناء المدينة المدمرة من جديد, أما حين بناء المدينة فى أواسط القرن التاسع عشر، فقد كان معظم ساكنيها ممن حفروا قناة السويس وذلك فى الحى العربى، أما الحى الإفرنجى (الغربى) فقد سكن فيه الفرنسيون والإنجليز واليونانيون ومختلف الجنسيات الأخرى ومعظم من يعيش الآن فى الحى الإفرنجى هم من العاملين فى شركة قناة السويس الحاليين، حيث تخصص لهم الشركة مساكن لحين الوصول إلى فترة المعاش.
بعد مقابلتى الأولى والأخيرة مع أجمل نساء الأرض عائشة السواركية بعدة سنوات، قرأت قصة للعبقرى يوسف إدريس اسمها "صاحب مصر" عن رجل فقير جدا يعشق رؤية العمارات وهى تبنى ويعشق أكثر منظر الرجال والفواعلية وهم يبنون العمارات لأصحاب الملايين، إلا أنه كان يعتبر الفواعلية هم أصحاب العمارات الحقيقيين لأنهم هم الذين يبنون الوطن فكان هذا الرجل الفقير كلما رأى عمارة جديدة تبنى فإنه ينصب نصبته المكونة من وابور الجاز وبراد الشاى والأكواب الصغيرة ويبدأ فى عمل الشاى للفواعلية نظير أى مبلغ يقدمه كل منهم له فيما، اعتبر هو نفسه واحدا من أصحاب مصر الحقيقيين وما إن قرأت قصة "صاحب مصر" حتى وجدت نفسى وإحساس حقيقى وغامر بأن "عائشة السواركية" هى صاحبة مصر كلها, ألم تطعم وتسقى جيش مصر وهو فى كارثة رهيبة من الجوع والعطش؟ وعلى الأقل يمكن بضمير مستريح أن أعتبر "عائشة السواركية" على أقل تقدير هى صاحبة الإسماعيلية فهل يعز على أنا الأهلاوى أن تحصل الإسماعيلية على درع خشبى؟ هل يعز على ألا أدعو للإسماعيلية بالحصول على بطولة الدورى فى موسم كروى لا يستحق فريق الكرة بالنادى الأهلى فيه الحصول على هذا الدرع؟
وسواء قلنا تعنت الحكام أو محاربة اتحاد الكرة والإجهاد المتواصل وتلاحق المواسم وسواء قلنا وعددنا الكثير من الأسباب وهى صحيحة تماما لكن فريق الكرة بالنادى الأهلى لكل هذه الأسباب وغيرها لا يستحق درع الدورى هذا الموسم، فلماذا لا أدعو الله حتى يمنح درع الدورى للإسماعيلية من أجل عيون صاحبة مصر عائشة السواركية فيا رب الدورى للإسماعلية ليس هذا العام فقط، بل فى كل الأعوام القادمة من أجل عيون عائشة السواركية صاحبة مصر.