لن تكون فضيحة القمح الروسى الفاسد التى فجرها النائب البرلمانى اللامع مصطفى بكرى هى الأخيرة، والشاهد على ذلك ما حدث فى نهاية العام الماضى، حين أثيرت نفس الضجة على القمح الأوكرانى الذى أكله عامة المصريين، وتحول ثمنه إلى أرقام بالملايين فى حسابات المستوردين، وفى نهاية المطاف خرج وزراء ليؤكدوا أن القمح كان سليماً، ومشكلته فقط أنه ينقصه البروتين، وكأن نقص البروتين مسألة عادية برغم أنه يعنى أن الخبز بلا قيمة غذائية، وأن القمح الذى صنع منه لا يصلح إلا للحيوانات
تمادى المسئولون فى إقناعنا بأن «الأوكرانى» كان سليماً، فقالوا إن القضية كلها ما هى إلا تصفية حسابات بين المستوردين، وقالوا أيضاً إن المسئول عن الصفقة صديق لمسئول كبير، المهم أن المسئولية ضاعت، ولم يهتز للمسئولين جفن وهم يرون رداءة رغيف الخبز الذى كان خير شاهد على الجريمة، وبدا أن المقولة الشعبية الرائجة بأن معدة المصريين تدهس الزلط تغطى على ما حدث، كما تغطى دائما على كل جرائم الأغذية الفاسدة.
وبين الحديث عن صلاحية «الأوكرانى» من عدمه، دارت عجلة الآراء حول الأساليب الفنية المتبعة أو المفروض اتباعها فى التأكد من مدى جودة القمح الذى يدخل بطوننا، غير أن اللافت فى كل ذلك أننا لم نشهد جرائم من هذا النوع إلا بعد إسناد عملية استيراد القمح إلى القطاع الخاص، فهيئة السلع التموينية تقوم بالإعلان عن توريد القمح، فتتقدم الشركات، ثم يتم ترسية العطاء على إحداها، لتقوم بالاستيراد، ومن هذا الباب يأتى الأوكرانى والروسى والصالح والفاسد، ويكتنز المستوردون (عددهم خمسة) الملايين، ونأكل نحن فسادهم.
والمثير فى هذه القضية أنه برغم تعدد فضائحها، تقف الحكومة متفرجة، ولا تتعامل مع القمح بوصفه قضية أمن قومى مما يرتب عليه ضرورة التوسع فى زراعته، ووصلت الاستهانة فى ذلك حد أن وزير الزراعة أمين أباظة قال أمام مجلس الشعب: «الذى لا يريد أن يزرع قمحا لتدنى سعره فليزرع قطناً»، وكأن وزير الزراعة الذى يعلم أن الفلاح المصرى هجر زراعة القطن بسبب سياسة حكومته، يحرض أيضا على عدم زراعة القمح، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل تعذب الحكومة الفلاح الذى يزرع القمح، بدليل أنها ترفض أو تماطل فى أخذه منه بأسعار معقولة، وتفضل الاستيراد بسعر يصل إلى 500 جنيه للأردب. والمفارقة المدهشة فى ذلك أنه طبقا لآراء الخبراء فإن نسبة البروتين فى القمح المصرى تصل إلى 10 %، ويعطى صافى دقيق 850 جراما، فى الوقت الذى لا تتعدى فيه نسبة البروتين فى المستورد 6 % ويعطى صافى دقيق 750 جراماً، وبهذه التقديرات فإن المصرى يكسب المستورد، لكن بدلا من تضافر الجهود من أجل تشجيع المحلى، تموت الحكومة فى تراب الأجنبى ليس من أجل الصالح العام، وإنما من أجل حفنة تعد على أصابع اليد الواحدة.
الإهمال والجشع والفساد، هى العناوين الرئيسية لهذه القضية، فلا الحكومة استفادت من البحوث التى أنجزها من قبل الدكتور عبدالسلام جمعة الشهير بـ«أبوالقمح المصرى»، والتى توصلت إلى رفع معدل إنتاجية الفدان من القمح، كما لم تستفد من بحوث العالم الراحل أحمد مستجير فى نفس الموضوع، وبذلك وضعت الحكومة نفسها تحت ضرس المستوردين، بإهمالها جهود العلماء، والاستخفاف بعرق الفلاحين، وتركت الساحة للمستوردين الذين أغرقونا بـ«الأوكرانى»، ثم «الروسى»، والروسى بالذات أكد أن القمح ليس لعبة أطفال، بدليل تحرك القيادة الروسية من أجل سمعة محصولها التى تعتبره من سمعتها السياسية، فقامت برفض صفقة برتقال مصرية، ورفعت الأمر إلى مستوى المباحثات الدبلوماسية. روسيا بذلك تضرب المثل فى كيفية حماية إنتاجها، أما حكومتنا فتتوه منها خيوط اللعبة، فنسمع مرة عن ضرورة تشديد الرقابة، ونسمع أخرى عن ضرورة محاسبة المسئولين، ونسمع ثالثة عن أن هذا الأمر لن يتكرر، وأخيراً سنسمع أن كل شىء تمام، وفى كل المرات لا نرى الحكومة تصمم على وضع خطة محكمة من أجل الاكتفاء الذاتى فى زراعة القمح، ونستغنى عن الروسى والأوكرانى وجشع المستوردين الذين لن يكتفوا بالنصب على الشعب المصرى.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة