طالما الحابل يختلط بالنابل، والجنايات بتسجيلات الهواة، والمجرمون بأصحاب الحصانة، والإعلام بالقضاء، فلا مانع من أن يصبح جمهور الكرة، مدربين ولاعبين وحكاما، وجمهور الفضائيات، رجال بحث جنائى، والمحامون وكلاء نيابة، يعجزون أمام منصة القضاء، فيقفون على منصات «الفضاء» وكله بثوابه.. ومع أن القضاء هو الساحة المعروفة حتى الآن لنظر القضايا وتحقيق الأدلة وإدانة المتهم أو تبرئته. إنها موضة جديدة أطاحت بالقضاة من فوق منصاتهم، وجلست مكانهم أمام الكاميرات وعلى صفحات الجرائد تصول وتجول، وتقدم أدلة معبأة سلفا، وأسرارا قادمة من المريخ، تزيح ستائر النسيان التى «نزلت بقالها زمان».
آخر قضايا «الشو» كانت قضية مقتل سوزان تميم، المتهم فيها محسن السكرى الضابط والقبضاى السابق، ورجل الأعمال وعضو لجنة السياسات بالوطنى هشام طلعت مصطفى، وصدر فيها حكم بإحالة أوراق المتهمين للمفتى.. ومنذ اللحظة الأولى للقضية انشقت الأرض عن عدد لاحصر له من المحامين والمحققين والأزواج للقتيلة والزوجات للقاتل، كل منهم يدلى برأيه فى القضية، ويشير إلى أنه يمتلك دليلاً جديداً على علاقات غامضة بين المتهمين والقتيلة وأزواجها وأهلها وجيرانها وخالاتها وعماتها، تفريغات لأجهزة موبايل للهواة والمحترفين، للقاتل وهو يسافر وهو ينام، وعن علاقات المتهم الثانى بالأول، وعلاقاته برجال آخرين، وكل يوم سر جديد.. كل هذا صنع حالة من التشويش دفعت رئيس المحكمة إلى تقرير حظر النشر، ليوقف حمى ادعاء المعرفة التى أصابت طالبى الشهرة والمال من المجهولين، الذين أصبحوا فجأة نجوم شباك وباب، واستغلوا جينات النميمة لدى الرأى العام، وحرص البرامج على التميز والانفراد بما هو مثير، وحرص كل منهم على تقديم كل ما هو مثير، كل يوم شريط أو سى دى أو لقطة، يشرح تفاصيل جديدة وحاجات غامضة لم تلتفت لها جهات التحقيق، وكان هؤلاء النطاطون هم فقط العارفون بكل ماهو مجهول.
المحكمة حظرت النشر، بعد أن رأت مجهولين يقومون بدور الضباط وعابرى سبيل يلعبون دور المحققين، مع كل ما لذ وطاب من المدعين والمحامين والوارثين، محام عن القتيلة، وآخر عن زوجها الأول، وثالث عن زوجها الثانى، ورابع عن والدها، وخامس عن أختها، وآخرون عن المتهمين الأول والثانى.. تناقشوا وتشاجروا، وكل طرف لديه أغراضه الكامنة فى تحقيق أرباح وعطايا من ميراث القتيلة أو المتهمين، كل منهم يريد تحليل أتعابه، فيتبارى فى كشف مالم يكشف، وإزاحة الستار عن «الكوامن الغامضة والنقاط المظلمة فى القضية»، متجاهلين أن هناك قضاة فى المحكمة من ذوى الخبرة مهمتهم هى التحقق من الأدلة، والاستماع إلى المتهمين والشهود.
استغل كومبارس الجريمة موضة تسريب التشويشات الناقصة، وإعادة تفسيرها أمام المشاهدين وليس أمام المحكمة.. وأعلنوا تفاصيل لاعلاقة لها بالدعوى، فإذا كان الثابت أن المتهم سافر وتم تصويره أمام شقة القتيلة، هناك من زعم أن الصور والأفلام يمكن تزويرها، أو التلاعب فيها مع استدعاء من يقول إن «الفنيات تثير الشبهات»، ناسين أن هناك اعترافات ووقائع وأدلة. لكنها الموضة التى جعلت كومبارسات الفضائيات يحلون مكان الشرطة والنيابة والقضاء.
ولا يستبعد ظهور سى دى يكشف أن حرف السين فى الصوت، يختلف عن الصاد، وأن الجذور التربيعية تكشف عن التواجد الانشطارى، ورأينا من يزعم نفسه خبيرا شرعيا يشكك فى تقرير الطب الشرعى مستخدما مصطلحات مجعلصة مثل «التحلل المتوازى، والنزف الانهمارى ،والتوعك الافتئاتى، الذى ثير التخوف من كون الموجود خارج المحطوط»، وإذا كان المتحدث أهبل، والمستمع نماما، تصبح الفرجة للصباح، ويفرط محترفو الفضائيات فى تقديم فقرات، ووصلات، وعروض «شو»، يلعب فيها الكومبارس دور المحامى، الضحية، أو حتى عجين الفلاحة.
كل هذا مع تجاهل أن القضية منظورة أمام قاض، وظيفته هى نظر كل ذلك، والغريب أن بعض محامى المتهمين، ممن فشلوا فى الدفاع عن موكليهم أمام المحكمة، أو تقديم دفوع مقنعة، خرجوا إلى الفضائيات ليقدموا دفاعا فى الوقت الضائع، وبعد فوات الأوان، وفى محاولة لتسويغ الملايين التى حصلوا عليها، وبدوا مثيرين للضحك والسخرية بما لا يناسب الموضوع.
مع أن الأجدى لهم هو الاستعداد للنقض، بدلاً من التنطيط أمام الكاميرات، يكسبون مزيدا من الموكلين الضحايا، الذين يخسرون، أمام القضاء، لأن المحامى عنده تصوير.