سيتوقف تاريخ كرة القدم طويلاً أمام ما يحدث فى مصر هذه الأيام، ليس بسبب الصراع الحاد على قمة الدورى وعلى قاعه، ولكن لأن ظواهر جديدة أصابت روح اللعبة، التى خلقت فى الأساس لكى يعبر اللاعبون من خلالها عن أشواقهم وأشواق مشجعيهم، وينزلوا أرض الملعب، هدفهم الأول هو إحراز الأهداف، ولن يحزن أحد لو خسر فريقه إذا لعب، لأنه فى النهاية يجب أن يكسب فريق.
وأيضا الاستهانة بمكانة الحكم وهز هيبته باتفاق جماعى. فى البداية يجب أن نعترف بأن الكرة المصرية تعيش فى السنوات الخمس الأخيرة، بسبب كثرة البطولات القارية، على مستوى الفريق الوطنى والأندية، وأن الدورى أصبح قويا بسبب ضخ أموال كثيرة فى الملعب، وأننا الآن على بعد ثلاث خطوات من نهايته ولم نعرف بعد من هو البطل؟، ولا فرق عندى من سيفوز بالبطولة، التى تذهب عادة للاهلى لأنها تحبه، والتى يستحقها الإسماعيلى لأنه يلعب كرة جميلة ممتعة (ويرى جمهوره أن الأهلى هو سبب كل مشاكل الإسماعيلية).. الجديد والمؤسف هذا العام هو تأخر الزمالك، وبدلاً من الدفاع عن هيبة فريق كبير جارت عليه الأيام، يأتى جيل من اللاعبين والإداريين والجمهور، ينام سعيداً لأنه «خسر» أمام الإسماعيلى فى مباراة بدون جمهور، أكثر من فرحه من خروج الأهلى من بطولة قارية، وكان حارس مرماه فرحاناً جداً، ويضحك بعد كل هدف يدخل مرماه (كما أشار حسن المستكاوى فى الشروق)، الجمهور أيضا كان سعيداً، قالوا إنهم يردون الجميل للنادى الذى أعطاهم الدورى قبل ذلك، الفريق الذى بدأ يسترد عافيته تدريجياً بفضل مدرب كبير، ومجموعة رائعة من الموهوبين الشباب، وقدم مباراة عظيمة أمام الأهلى كان الأقرب فيها إلى الفوز، ذهب إلى الإسماعيلية لا لكى يكسب ويتقدم خطوات فى الجدول، ويمتعنا بمهارات لاعبيه الجدد، ذهب لكى يخسر الأهلى البطولة، وهذا يجعلنا لا نتحدث عن اللعبة ولكن عن الأخلاق، المتعصب أيضا عنده أخلاق لأنه شخص خائف، ولكنه عندما يذهب خلف فريقه أو يشاهده يتحول إلى شىء مخيف، ينظر إلى خصمه (الذى يلعب معه) على أنه عدو، ولكن متعصب ميت عقبة هذه المرة لم يلتفت إلى خصمه على أرض الملعب، وتركه يمطره أهدافا «وحركات» لكى ينتقم من فريق يشاهد المبارة مع الجمهور فى التليفزيون، قالوا إنه لم يحدث تفويت، وأن الإسماعيلى كان يستحق الفوز على الفريق الذى بهدل الأهلى قبلها بأيام، ونفوا ما شاهدناه بعيوننا التى سيأكلها الدود، المباراة كانت بدون جمهور، والمباريات التى بدون جمهور تشبه الرقص بدون موسيقى، ومع هذا خسر الزمالك وفرح جمهوره، لتخسر اللعبة فى مصر فضيلة الفروسية، ويتحول المتعصب إلى شخص خانع لا تؤثر هزيمة فريقه فيه. الظاهرة الثانية هى تدنى مستوى التحكيم، واعتداء اللاعبين والإداريين عليهم، الأسبوع 27 وحده شهد أكثر من مهزلة، ففى مباراة الإسماعيلى والاتحاد السكندرى وجه جمهور الناديين هتافات بذيئة ضد مدحت الحوفى، وفى مباراة المصرية للاتصالات مع المقاولين العرب احتسب سمير محمود عثمان ضربة جزاء، دفعت لاعبى الفريق الأول إلى ضرب الحكم بعد المباراة، ولم ينقذه غير رجال الأمن، والأسبوع 28 شاهدنا الأهلى وإنبى، وكيف نجح مدحت عبدالعزيز فى إفسادها بقراراته المتسرعة، وشاهدنا تجاوزات جوزيه وأحمد حسن، ومع هذا يتحدث رئيس لجنة الحكام محمد حسام ويقول، إن الحكام عندنا لا يخطئون، وأنهم أنظف ناس فى البلد، ولكن الحكم الموقوف (وليس المشطوب كما أكد لأخبار اليوم ) قال إن ما حدث فى المباريات الأخيرة سببه لجنة الحكام، لأنها اعتمدت على الدوليين فقط لمدة طويلة، وعندما احتاجوا لحكم مثل مدحت عبدالعزيز فى مباراة الأهلى وإنبى لم تسعفه لياقته.
وفقدان الحكم لهيبته، يعنى أن اللعبة فى خطر، هو بالطبع مشكلة، ولكن لا غنى عنه، هو الطاغية الذى يمارس ديكتاتوريته دون معارضة ممكنة، والجلاد المتكبر الذى يمارس سلطته المطلقة بإيماءات قائد الأوبرا كما وصفه إدواردو جاليانو، الصفارة فى فمه، ينفخ الحكم رياح القدر المحتوم، ويمنح الأهداف ويلغيها، هو الدخيل الذى يلهث دون راحة ما بين الاثنين وعشرين لاعباً، يتذكره الجمهور إذا «خبطت» الكرة بجسده، المهزومون يخسرون بسببه، والفائزون يربحون رغما عنه، إنه سبب كل النكبات، ولو لم يكن موجودا لاخترعه المشجعون، وكلما كرهوه أكثر ازدادت حاجتهم إليه، خلال أكثر من قرن، كان الحكم يرتدى لون الحداد.. على من؟.. على نفسه، أما الآن فإنه يخفى حداده بالألوان.